الصين صعود فارق لنفوذ لاحق… هل يتحوّل القرن الحادي والعشرين إلى قرن صيني بامتياز؟

عاد النشاط البحثي لمؤسسات الفكر الأميركية المتعددة، بعد انقضاء عطلة الصيف مطلع الشهر الحالي وكذلك للدوائر الرسمية باستثناء مجلسي الكونغرس اللذين سينعقدان الأسبوع المقبل.

أبرز التحديات الراهنة للولايات المتحدة يكمن جذرها في سبل احتواء صعود الصين، وهو العنوان الذي سيتناوله قسم التحليل مسلطاً الضوء على مقولة تتردّد بكثرة في واشنطن من أنّ .. القرن الحادي والعشرين قد يتحوّل إلى قرن صيني بامتياز .

الاتجار مع الصين

دأب معهد كاتو على انتقاد سياسة الرئيس دونالد ترامب الاقتصادية بفرضه نظام رسوم جمركية متصاعد على المنتجات الصينية لا سيما أنّ تغريداته ترافقها أنباء غير سارة للطرفين، والسياسة الاقتصادية الأميركية الراهنة في عهده هي حمائية بشدة.. وانتاب الرئيس غضب من ردّ الصين بفرض رسوم موازية، معلناً انتقامه برسوم جديدة رداً على الردّ . وأضاف أنّ ذاك التصرف دشن حرباً تجارية باضطراد والتي باتت تخرج عن نطاق السيطرة مما يُخضع المنتجات الصينية لرسوم تتراوح بين 15 إلى 30 مع نهاية العام الحالي مؤكداً أنّ كافة شرائح المجتمع الأميركي ستعاني من تلك التصرفات غير المدروسة .

إيران

سخر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من نداءات الإدارة الأميركية المتكرّرة بمناشدة الدول الأخرى الانضمام لقوة عسكرية تحت قيادتها لحماية الملاحة التجارية في مضيق هرمز، مشبّهاً ضحالة منسوب التجاوب بـ إقامة واشنطن حفلة ولم يحضرها أحد ما . بل انّ مناشدة واشنطن تواجه بالحيطة والحذر والاستهجان ليس بدافع الخشية من الإيرانيين، بل لحسابات دقيقة من حلفاء واشنطن وشركائها بأنّ بقاءهم بعيداً عن نوايا واشنطن هو أسلم لهم . أما الإيرانيون وفق المركز، فإنهم ماضون في تطبيق سياسة تديم التوترات على نار هادئة لكن دون وصولها للانفجار بهدف الإبقاء على الأزمة مشتعلة لكن دون مرحلة نشوب الحرب .

الصين

أعاد المجلس الأميركي للسياسة الخارجية لفت الأنظار إلى الأوضاع الداخلية في الصين بالزعم مجدّداً أنّ بكين تمارس اعتقالات جماعية لأقلية الأويغور.. بالتزامن مع تدمير مساجدهم وهدم أحيائهم السكنية . كما استحضر المجلس بعضاً من تاريخ الأويغور وجذورهم كإحدى القبائل التركمانية المتجولة، وإنشاء أحد الفروع التابعة لهم، قره خانيد، عاصمة حضرية لهم في مدينة كاشغار بالقرب من حدود الصين مع قيرغيزستان . وأضاف أنّ الأيغور اعتنقوا عدداً من الديانات تباعاً منها المذهب الروحاني والبوذية والمانوية والمسيحية ومن ثم رسوا على الإسلام .

أفغانستان

أقرّ معهد كارنيغي بهزيمة الولايات المتحدة في أفغانستان ببطء منذ بضع سنوات، ليس لعوامل عديد القوات والمعدات بل للفشل الكارثي في تحديد أهداف واقعية يمكن تحقيقها من تلك الحرب . وأضاف أنّ الاستراتيجية الأميركية انطلقت من مكافحة الإرهاب وتشعّبت الأهداف لمديات أسهمت في فشلها، وتمّ رهن أهداف مكافحة الإرهاب لمطالب أقصى مما قوّض تحقيق الطموحات الأصلية . وخلص بالقول إنه آن الأوان لتقبّل المخاطر والتنازلات الصعبة عبر تسوية تفاوضية، والتي إن تأجّلت لزمن أطول تزداد الكلفة ومنسوب الألم .

تجمع النخب السياسية والبحثية الأميركية على تراجع النفوذ الأميركي في العالم قاطبة ودخول الصين بقوة على المسرح العالمي واجتيازها مرحلة كونها مستودع لإعادة تصدير بضائع السوق الاستهلاكية الرأسمالية إلى مصاف القوى العالمية.

من بين أبرز النخب الفكرية الأميركية كان معهد بروكينغز الذي حذر في دراسة له بعنوان الهيمنة الغربية على الساحة العالمية تشرف على نهايتها ونحن الآن ندخل عصر النفوذ الصيني ، 29 كانون الثاني/ يناير 2017 بعد استعراض شامل لإرهاصات تطوّر الصين ومعاناتها التاريخية من .. غزوات أوروبية وإهانة ونهب ممنهج لخيراتها، لكنها تمسّكت بسيادتها بقوة، واستطاعت استعادة السيطرة على مواردها مع نهاية القرن العشرين .

بيد أنّ الصين لا زال أمامها مشوار غير يسير لاستعادة كافة أراضيها، لا سيما هونغ كونغ وجزيرة فرموزا تايوان والسيطرة على بحر الصين الجنوبي مقارنة باستكمال الكيان السياسي الأميركي وسيادته على أراضيه منذ نهايات القرن الثامن عشر.

دخول الصين عصر النهضة الراهن جاء تتويجاً لصعود رئيسها الحالي، شي جين بينغ، باعتقاد النخب السياسية الأميركية، والذي وعد شعبه بخطاب مطوّل في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2012 بتحقيق حلم الصين الموحدة … والتجديد العظيم للأمة الصينية التي عانت من مشقات وتضحيات بالغة.. ولم يستسلم شعبها أبداً، وواصل نضاله دون انقطاع، وفي النهاية فاز بتقرير مصيره بيده .

الصين: الأولوية للسيادة

من بين الدراسات الغربية الرصينة حول نفوذ الصين التصاعدي، تنبّؤ الأستاذ الجامعي البريطاني، روبرت بيكرز Robert Bickers، في مؤلفه الصادر مطلع عام 2017 خارج الصين: كيف أنهت بكين عصر الهيمنة الغربية ، باستعراضه عناصر الجذب والترابط والرفض التي ميّزت تعامل الصين مع المراكز الغربية على الدوام مؤكداً أنّ استحداث الصين للنزعة القومية جدير باستيعابها ومدى تجذرها في الوعي الشعبي، ماضياً وحاضراً.. والتي أضحت نتيجة منطقية ترافق القوة الاقتصادية المكتسبة بمشقة .

ويمضي مؤكداً على حتمية قيام الصين القوية اقتصادياً بترجمة نفوذها وذاتها على العالم، والذي قد يستغرق زمناً قصيراً للتعوّد عليه، لكنه سيحدث حتماً . وفي مكان آخر يشير إلى عزم الصين على التوصل للاكتفاء الذاتي كعنصر أساسي لتعزيز حضورها بين الأمم وتجسيداً لمطالبها باستعادة السيطرة على أراضيها، وعدم العودة مرة أخرى لمرحلة تهديدها بالقوة .

الحرب التجارية

احتدام التنافس التجاري والسيطرة على الأسواق، بين الأقطاب الاقتصادية الكبرى في مرحلة العولمة دفع بالصين إلى تصدّر مكانة الإنتاج الأبرز في الاقتصاد العالمي، بصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم الذي لا يزال يستند إلى تراث الحزب الشيوعي الصيني في شرعيته. الأمر الذي أثار حفيظة أميركا بشكل رئيس في العقدين الماضيين، استنهضت واشنطن كلّ ما لديها من أسلحة، حربية وناعمة وعدائية عنصرية، لمواجهة وتقليص تغلغل ونفوذ الصين في الأسواق العالمية.

ما شهدناه مؤخراً من تبنّي واشنطن لتدابير وإجراءات عقابية على المنتجات الصينية، تبادل فيه الطرفان خطوات انتقامية أدّت لزيادة الرسوم الجمركية على منتجات البلدين وارتفاع غير مبرّر في أسعار السلع والمنتجات، لا سيما عند بدء العام الدراسي في الولايات المتحدة وتحمّل المواطن أعباء إضافية لا قدرة للسواد الأعظم عليها.

وحمّلت يومية الاقتصاد والمال الأميركية وول ستريت جورنال سياسات البيت الأبيض العشوائية مسؤولية التدهور محذرة من تفاقم مخاوف الأسواق من أن توقد النزاعات التجارية بين البلدين شرارة ركود في الاقتصاد الأميركي .

وأوضحت انّ النتائج الأولية الملموسة لتلك السياسات أسهمت في فقدان الثقة بالشركات الأميركية الصغيرة.. نحو 670 مصلحة، بسبب رسوم فرضها ترامب وإعاقة التبادل التجاري بين العمالقة الصناعيين في آسيا، وتضرر نشاط المصانع التي يقوم عملها أساساً على التصدير في الدول الأوروبية . 5 أيلول/ سبتمبر الحالي .

وأردفت أنّ الرسوم الجمركية على السلع المستوردة تزيد من الضغوطات على الشركات المتعددة الجنسيات عندما يتعلق الأمر بالتكاليف، وهذا ما يجعلها تبحث عن طرق بديلة لتعويض خسارتها.. كما أشارت بعض الدراسات الاستقصائية إلى تراجع الأنشطة الصناعية في اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، مع نتائج متباينة في الصين. أما في أوروبا فقد سُجل انخفاض ملحوظ في الأنشطة الصناعية في ألمانيا، التي تعدّ المورد العالمي الرائد للآلات والمعدات التكنولوجية .

أبرز النزاع التجاري بين بكين وواشنطن عوامل صراع أشدّ بينهما كانت كامنة في معظمها لوقت قريب جذرها سياسي بأبعاد استراتيجية بالدرجة الأولى، لا سيما لعزم الصين الثابت في ممارسة سيادتها على أراضيها ومياهها الإقليمية، بمواجهة التعزيزات العسكرية الأميركية على مقربة منها ومسؤولية الأمن الإقليمي في مياه بحر الصين الجنوبي، وخطة الصين الاستراتيجية في الانفتاح الاقتصادي المدمجة في طريق الحرير الجديد الذي سيصل أقصى مناطقها بكافة الدول الأوروبية براً، مروراً بكامل الجغرافيا الفاصلة بين الصين وألمانيا، وما هو أبعد.

البيت الأبيض تشبّث بقراراته السابقة بفرض الرسوم الجمركية تصاعدياً، على ما قيمته 550 مليار دولار من المنتجات الصينية، آخرها ستدخل حيّز التنفيذ منتصف كانون الأول/ ديسمبر من العام الحالي، بنسبة 15 على الهواتف الخلوية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة ولعب الأطفال والملابس في ذروة التسوّق احتفالاً بأعياد الميلاد والسنة الجديدة.

في الوقت عينه، أكد البلدان على إدامة التواصل بينهما على مستويات رفيعة بغية التوصل لصيغة اتفاق ترضي الطرفين، على الرغم من تزايد منسوب القلق من نوايا بعضهما البعض لكنها محاولة أميركية لترضية حلفائها الأوروبيين بالدرجة الأولى والإعلان عن التمسك بمعاقبة بكين في ما بعد. الأخيرة أعلنت أنّ وفدها الرسمي سيصل واشنطن منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر المقبل.

استراتيجية الصين في التعامل مع النزعات الأميركية المتبدّلة عنوانها الصمود والصبر والقدرة على التحمّل، مع إدراكها العميق أنّ غالبية صادراتها، 80 ، تذهب لأسواق الدول الأخرى خارج أميركا، مما يتيح لها قدراً أعلى من المناورة والخيارات البديلة.

في المقابل، تنظر واشنطن إلى إرهاصات ومظاهرات مقاطعة هونغ كونغ، المعادية لبكين، بعين العطف وتقديم الدعم للمحتجّين، رغم إنكارها الخجول، كوسيلة ضغط إضافية على المفاوض الصيني لتقديمه تنازلات قاسية. يُشار إلى أنّ سيادة المقاطعة ستعود بالكامل لبكين عام 2047، وفق الاتفاقية المبرمة مع التاج البريطاني.

وفي الخلفية أيضاً سعْي الدوائر الأميركية لإشعال التوترات في مقاطعة شينغ يانغ أقصى غربي الصين، التي تقطنها أقلية الإيغور، وإدامتها هناك طمعاً في اقتطاعها عن البلد الأمّ على طريق تقسيم الصين، أسوة بجزيرة تايوان التي حرصت واشنطن مؤخراً على بيعها طائرات مقاتلة أميركية حديثة لتعميق الشرخ بينها وبين البلد الأمّ، ورسالة مفادها أنّ واشنطن ستفرد مروحة حمايتها للجزيرة عززتها بتحريك قطعها البحرية في مياه المضيق الفاصل بين الجزيرة والأراضي الصينية فضلاً عن استمالة الدول الإقليمية بالقرب من الصين لصالحها وتجديد نزعة العداء التاريخي بينها وبين الصين أحدثها فيتنام التي زوّدتها واشنطن بستة زوارق حربية لتعزيز حراستها لشواطئها.

تحافظ واشنطن أيضاً على تأجيج العداء الإقليمي لاستراتيجية الصين الحزام والطريق ، عبّر عنه المركز الأمني لأميركا الجديدة بالقول تحت مظلة الحزام والطريق، تسعى بكين الترويج لعالم مترابط عبر شبكة للبنى التحتية ممولة صينياً.. لكن لها أبعاد أخرى فضلاً عن المبادرة الاقتصادية أذ ما هي إلا وسيلة محورية لتعزيز طموحات الصين الجيو-سياسية .

بالرغم من تلك الاستراتيجية الطموحة والسيولة المصرفية الهائلة لدى بكين، وسخاء استثمارها في بنى الدول الإقليمية التحتية ومن ضمنها سورية، لكنها تسير بحذر شديد في المرحلة الراهنة كي لا تستعدي واشنطن وتدخل في مواجهة مباشرة معها في ظلّ عدم نضوج استعداداتها لها.

ربما تلك الاستراتيجية الصينية توازي في مفارقتها السياسة الأميركية عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي جسّدتها بالاستثمار في بنيتها التحتية الداخلية وفي ما بعد بالبنى الأوروبية المدمّرة. بيد أنّ نزعة واشنطن التوسعية المتأصّلة استثمرتها بداية في السيطرة على القارة الجنوبية بتدخلها عسكرياً في أميركا الوسطى منذ عقد العشرينيات من القرن الماضي، ما لبثت أن تبلورت ونضجت نواياها الاستعمارية للسيطرة على موارد وخيرات الكون بأكمله بدءاً بالهيمنة على كامل أوروبا الغربية وتدريجياً باستبدالها السيطرة على المستعمرات البريطانية والفرنسية السابقة.

نشرة دورية تصدر عن وحدة رصد النخب الفكرية

في مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى