إمكانيّة تأصيل نوع أدبي جديد شعر الومضة

أمين الذيب

منذ زمن الخليل بن أحمد الفراهيدي 100 170 هجري/ 718 786 ميلادي واضع علم العروض، مُعتمداً بذلك على افتراق التصويت والإيقاع في الشعر الجاهلي، لم يطرأ أي تعديل يُذكر في المفاهيم النقدية التجاوزيّة في ما يختصّ بالأنواع، لاستتباب السائد كيقين ثابت ومُستقرّ.

فكرة وضع علم العروض: تنبّه الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو يسير بسوق الصفارين النحاسيات، الى آليّة الطرق المتناسقة بأنغام تكاد تكون إيقاعية، فلمعت بذهنه فكرة الإيقاع والعروض في الشعر العربي، وليتيقّن من مراتب التصويت وتركيباتها، كان ينزل الى بئر داره ويُصدِر أصواتاً بنغمات مختلفة، ليستطيع تحديد النغم المناسب لكل قصيدة، وعكف على قراءة أشعار العصر الجاهلي، ودرس الإيقاع والنُظُم، حتى تمكن من ضبط أوزان خمسة عشر بحراً، ووضع تلميذ سيبويه الأخفش الأوسط بحر المتدارك.

هذا أول جهد يُبذل كتبويب أو تصنيف للأنواع الشعرية المرتكز على التصويت الإيقاعي الخارجي ولا زال مستمراً حتى اليوم، ولم يطرأ، رغم افتراق الأزمنة والأمكنة أي تجاوز يذكر سوى ما حدث في مرحلة الخمسينيات، الذي لم يرقَ الى تأصيل نوع جديد مُكتفيّاً ببعض التقنيات التي لم تصل الى مرحلة الثورة والابتكار.

يقول إبن سينا في مؤلفه إشارات وتنبيهات، بما معناه، ان العرب بسبب فطرتهم وبداوتهم، واستتباب قيمهم، لم يلحظوا من علم الاصوات إلّا ما كان يكفي حاجتهم، وتغافلوا أو لم يدركوا حينها، اتساع هذا العلم وتنوعه وامتداداته.

مما يطرح سؤالاً استدلاليّاً: هل تشكّل عند العرب القدامى إدراك للأجناس الأدبية وتصوّر واضح لخصائصها المميزة وحدودها ومجالات تفردها قياساً الى بعضها البعض؟ واذا كان الجواب بالنفي فما هي الاسباب التي منعتهم من بلوغها؟

بقيت التصنيفات النقديّة الحديثة منذ عصر النهضة العربية الى اليوم تتحرّك داخل الدائرة التي وضعها ارسطو. وهكذا ارتبطت نظرية الأجناس بأصولها الإغريقيّة، خاصّة أرسطو في كتابيه فن الشعر وفن الكتابة.

أمّا في الغرب، خاصّة بعد ظهور الرومانسية، فقد ظهرت نظريات عديدة جهدت في العمل على تقويض نقاء النوع، الذي كان أرسطو قد أرساه، وساد لفترة زمنيّة طويلة. موريس بلانشو كان من أبرز المناهضين لفكرة النوع. فالأدب عنده لا يتحقق إلا إذا انتفى وتبعثر، بما يعني أن وجود الأدب في عدمه. فالكتابة عند بلانشو هي تمرّد لا يخضع لأي سلطة أو قانون بما فيها سلطة النقد وقانون النوع، يجب الهدم ليحصل الكاتب على حرّيته. في تلك اللحظة فقط يصل الأدب الى الغياب حيث تكمن نقطة الصفر للكتابة. وهذا ما أخذه عليه تزيفتا تودوروف، الذي اعتبر ان الدعوة لإلغاء النوع في صورتها عند بلانشو ليست قائمة على أساس مكين.

ميخائيل باختين يعتبر أن الشعر يجب أن يبدأ بالنوع، انطلاقاً من هذا الوعي بالأهمّية القصوى التي يكتنفها النوع الأدبي في تأسيس المعرفة الأدبية وتطبيقها، طرح مسألة التلازم القصوى بين الأجناسيّة والأدبيّة، بل والخطابية، حيث تقوم نظريته على الملفوظ أو المنطوق. الأجناسية عنده ملازمة لكل الخطابات، ففكرة النوع لا تنحصر في الأدب انما تغوص عميقاً في الواقع اللغوي.

بينما يرى جيرار جونيت في ثلاثية التقسيم عند أرسطو وهماً إرجاعياً، حيث لا تنطبق صفتا الخلود والبداهة.

فيكتور هيجو هاجم مبدأ فصل الأنواع، على ركيزة مشاعر الناس المتنوّعة، ولكننا نجد أن الرومانسيين لم يتحرروا من سلطة النوع، فبقيت الرواية والشعر والدراما سائدة في مفهومها الكلاسيكي، وبقي لامرتين شاعراً وهيجو روائياً.

أدّى هذا الى اعتراف الرومانسيين بوجود حدود فاصلة بين الأنواع، فعمدوا الى الغاء بعض الأنواع بغرض التأسيس لأنواع جديدة التجاوز وبذلك اتخذت النظرة الى النوع وعياً مُغايراً في العصر الحالي على صعيدي المُنجز الإبداعي والتنظير النقدي.

ظهرت نظرية رولان بارت في النقد التي تقوم على النصّ الإبداعي القادر على تعديل الوعي، أي الفهم لمعنى الكتابة بوصفها فعلاً جديداً يناهض مفهوم القراءة الأحادي. فاللغة عنده ليست وظيفة تواصل بقدر ما هي وسيلة لفهم العالم أو تأويله. إذن النصّ عند بارت ناتج نصوص وقراءات يتحول معها النص الى تعدد وكثرة، نقطة التقائهما القارئ وليس المؤلف، فنشأت نظرية موت المؤلف كثمن يدفعه لولادة قارئ. الكتابة عنده خلخلة، يقول الكتابة لا تتوخّى شيئاً لأنها تتحرك كمتعة.

بينيديكتو كروتشيه نادى أيضاً بإلغاء فكرة الانواع ووصفها بالنظرية الخاطئة. فجمال النص هو الأساس وكونه ينطلق من مبدأ الحدس والأثر النصّ الذي يعتبره فائض وعي فردي تلقائي دون تفكير مُسبق في القواعد والأصول وتحرّره من القيود ككيان كُلّي مُتفرّد.

الأدب الوجيز حركة تجاوزية جديدة:

دأب الأدب الوجيز، منذ ما يزيد على خمس سنوات، على دراسة هذا الواقع، الذي بات يُشكّل عائقاً وجودياً أمام أي إمكانية لتطوير النصّ الشعري. وقد تركّزت دراسات فريق الأدب الوجيز المكوّن من أكاديميين وأدباء وشعراء ونقّاد، على التعمّق بدراسة الواقع الأدبي والشعري بشكل خاص، منذ العصر السومري حتى اليوم، وأقام الملتقى الندوات والمؤتمرات، في تونس ولبنان وسورية، طارحاً رؤيته ومنطلقاته الفكريّة كرافعة لتأسيس حالة تجاوزية جديدة. وقد نُشِرَ لفريق الملتقى أكثر من أربعين مقالاً تنظيرياً ونقديّاً على مدى سنتين ولا زال ينشر اسبوعياً.

هويّة الأدب الوجيز: للمرّة الأولى في التاريخ المشرقيّ والعربيّ بشكل عام، تنشأ حركة تجاوزية جديدة، ذات مرتكزات ومُنطلقات فكريّة تؤسس لنوع أدبيّ جديد، يقوم على جملة عناصر حيويّة، ترتكز على الاتساع الداخلي في اللغة وفي الإيقاع، وتحرير المفردة من دلالاتها المباشرة وإطلاق طاقاتها المكنونة الى الحدّ الأقصى، وتوظيف اللغة كمدخل للفكر الفلسفي، باعتماد التكثيف والاختصار وتشذيب اللغة من الحشو الذي فرضه الإيقاع الخارجي السائد حتى كاد أن يسم الشعر بالنثر أو السردية المُملّة عند الكثير من الشعراء.

الجاحظ عندما تصدّى لهذه المفاهيم النقدية اعتبر أن الشكل إناء، ونقد الشكل إنما هو امتحان لفكر الشاعر أي المضمون، فأي فكر جديد يحتاج لانبثاقه شكلاً جديداً. المحتوى في الشعر نوع من حضور الشكل في حركية الإبداع والتطور. فإذا كان المحتوى اصطلاحاً نقدياً، أي أنه تجريد ذهني، يستحيل عزله عن الشكل، لكينونته الانصهارية المتلازمة ككيان أدبي قائم بذاته، عندها نكون قد حققنا تجاوزاً حقيقياً في المفاهيم.

لكل ذلك يرى ملتقى الأدب الوجيز أن مسألة النقد العلمي، لإنتاجنا الأدبي، لا زالت حاجة مُلحة يقتضيها سياق التطور الإنساني. وتقتضيها أيضاً حالة المجتمع الذي يرزح تحت أعتى هجمة استعمارية، تهدف الى تدمير الحضارة والتاريخ والشخصية المجتمعية، وتسعى لتفتيت وحدة المجتمع دينياً ومذهبياً وإثنيّاً.

قد يكون الاعتقاد باستمرارية الماضي، لكماله، بنظر معظم النقاد الذين تنوعت مدارسهم النقدية، هو ما أعاق الثورة الفكرية، لكون النقد بكينونته ليس إلا فكراً مُستشرفاً، يرى الى الواقع جوهره ومعنى الحدث وليس الحدث بحد ذاته وإلا صار مترجماً للواقع وهذا لا ينطبق على الشاعر الثوري، كأن يكتب عن الواقع إنما برؤيا الاستفادة التجاوزية التي تقود الى المستقبل المُتخيل.

مؤسس ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى