الناخب التونسي.. والسقوط المدوّي للطبقة السياسية

ناديا شحادة

انتهت ثاني انتخابات رئاسية في تونس وسط منافسة غير مسبوقة بسبب كثرة المرشحين، وتراجع نسبة المشاركة التي كانت هي السمة الأبرز بعد أن دُعي إليها أكثر من سبعة ملايين ناخب مسجل، حيث كانت نسبة الإقبال ضعيفة وبالذات من فئة الشباب الذي يمثل أكبر شريحة من المسجلين للانتخابات مقابل حضور مكثف من الكهول.

انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية التونسيّة لا يظهر إلا مدى عدم رضا التونسيين عن الطبقة السياسيّة بأكملها. فهذه الانتخابات تحصل في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية، وفي ظل أزمة سياسيّة حادة وأزمات حزبية عميقة، إذ هناك أحزاب وسياسيون في الطريق إلى الاندثار.

مفاجآت كبيرة أظهرتها نتائج استطلاعات الرأي تفيد بتصدّر شخصيتين من خارج المشهد، هما الأكاديمي المستقلّ قيس سعيد وهو أستاذ قانون دستوري متقاعد، وبرز بشكل خاص بعد ثورة 2011 في المنابر الإعلامية كرجل قانون متخصّص لشرح معضلات دستورية، ولكن ذاع صيته بإتقانه المبهر في التواصل باللغة العربية مستعيناً بصوته الجهوري. وحافظ سعيد على تلك السمة في كلّ لقاءاته وآخرها في المناظرة التلفزيونية لمرشحي الرئاسة، ورجل الأعمال ورئيس حزب «قلب تونس» نبيل القروي.

أجرت الاستطلاع مؤسسة «سيغما كونساي» بالتوازي مع عملية الاقتراع، مؤكدة أنّ مرور سعيد إلى الدور الثاني مع نبيل القروي الموقوف في السجن أصبح أمراً حتمياً، وأنّ هامش الخطأ ضيق في الاستطلاع.

إذا تأكد فوز قيس سعيد ونبيل القروي المسجون على ذمة التحقيق في قضايا تتعلّق بتبييض الأموال والتهرّب الضريبي فإنّ ذلك اعتبره العديد إعلاناً رسمياً لنهاية منظومة الحكم القديمة واللوبيات التي عملت معها لعقود عدّة، فيما رآها آخرون بداية صعود «الشعبويين» في تونس وتمكّنهم من السلطة على غرار ما حصل في دول كثيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية وإيطاليا وأوكرانيا. وهذا الفوز يشكل تحوّلاً كبيراً ودرامياً في المشهد السياسي ولطمة للأحزاب السياسية الكبرى كحزب «النهضة» وحزب «نداء تونس» وحزب «تحيا تونس» التي لم تتعدّ نسبة المنتخبين لهم 5 أو 6 بالمئة، والباقي شرائح محايدة اختارت ان تعطي صوتها لشخصيتين من خارج المشهد السياسي التونسي الحالي..

الناخبون التونسيون الذين عزفوا عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع يعاقبون الطبقة السياسة الحاكمة بأحزابها المختلفة، سواء المنتمية إلى الإسلام السياسي أو المنظومة القديمة أو الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية، فالتونسي في لقائه وسماعه للمرشحين لم يبدِ اصطفافاً أعمى لهم ولم يخُض صراعات بل كان متلقياً لكلّ ما يدور من حوله.

الانتخابات الرئاسية الحالية ليست كسابقتها، ففي عام 2014 والتي تمّ خلالها ولأول مرة في تاريخ تونس انتخاب رئيس جمهورية انتخاباً حراً ومباشراً كان الانتماء الأيديولوجي والشحنة العاطفية مقياساً لاختيار الناخب الذي واجه تناحراً بين مرجعيتين هما المرجعية الإسلامية والمرجعية الحداثية البورقيبية. وكانت الأمور محسومة بالنسبة لأنصار المرجعيتين. وانخرط الناخب في ظلّ تلك الأجواء من التناحر في حملة التنافس المحموم وكانت وجهته الانتصار لمرجعيته. أما في الانتخابات الرئاسية الجديدة فإنّ جلّ الأمور تغيّرت… إذ تغيّر المرشحون وأصبحوا شتاتاً من العائلة السياسية الواحدة، وتغيّر الناخب بانتباهه لقيمة صوته خاصة مع اكتساب الناخب التونسي فكرة وتصوّر حول كيفية مشاركته في الحياة العامة وعرف قيمة صوته حتى لا يكون ضحية أحزاب لا تخدم مصالحه.

إنّ الانطباع الواسع الانتشار بين التونسيين هو أنّ جميع المرشحين لا يخوضون إلا معارك سياسية بين بعضهم البعض، وأنّ النخبة السياسية والأحزاب الكبيرة باتت جميعها في أزمة، ما يفسح مساحة للمرشحين من خارجها كنبيل القروي وغيره من القادمين من خارج المشهد السياسي التونسي الحالي كقيس سعيد من تصدّر نتائج استطلاعات الرأي يوم الاقتراع ومرورهما بشكل حتمي إلى الدور الثاني.

الكتلة الشعبية الكبيرة الممثلة بالعملية الانتخابية من الواضح أنها ليست صاحبة ولاءات ثابتة. وهذا يعني أنّ تونس تمرّ بمرحلة انتقالية مفتوحة الخيارات فيها قابلية للتغيّر والمنافسة الانتخابية، والدورة الثانية معرّضة أن تشهد مفاجآت وستكون الحسابات فيها معقدة أكثر لأنها ستأتي بعد الانتخابات التشريعية التي لن ينافس فيها قيس سعيد بل نبيل القروي مؤسّس حزب «قلب تونس»، فمن الممكن أن يكون القروي الأقلّ حظاً متصدّر نتائج الانتخابات في الدور الثاني، وقيس سعيد الذي لا يملك سجلاً سياسياً أو انتماء حزبياً وأغلب نشاطاته ترتبط بجمعية القانون الدستوري ولم يكن اسمه وارداً في حسابات الائتلاف الحاكم كمنافس جدي في السباق الرئيسي أمام منافسين من العيار الثقيل مثل مرشح حزب حركة النهضة الإسلامية عبد الفتاح مورو ورئيس الحكومة يوسف الشاهد ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، وهو الأوفر حظاً من القروي بناء على مؤهّلاته العلمية والقانونية والدستورية وخلفياته الفكرية، ولكن صوت الناخب التونسي ربما يصنع تحوّلاً كبيراً ودرامياً في المشهد السياسي من جديد ويكون سقوط الأكاديمي قيس سعيد كالسقوط المدوًي لمرشحي الأحزاب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى