الأدب الوجيز ضبابيّة التسمية وكليّة الأدب

د. محمد ياسين صبيح

من متطلّبات الاستمرارية الأدبيةِ، التطورُ الإبداعيُّ الذي يشمل كلّ الأجناس الأدبية بمجمل مندرجاتها الأسلوبية والبنائية والتأويلية بما في ذلك استنباط وظهور أجناس أدبية جديدة، لذلك نعتبر أن الاهتمام بجنس أدبي واحد فقط، غير كافٍ لخلق حالة إبداعية صحية، إنما هو محاولة جادة قد تساهم في دفع باقي الأجناس إلى الاتجاه التطويري نفسه. ومن هذا المنطلق فإن الاهتمام ببعض الأجناس الأدبية وفي ما يسمّى النصوص القصيرة أو الأدب الوجيز يؤدي الى إقصاء وتعمية الأجناس التي يتضمّنها.

هكذا نرى أنَّ تسميةَ الأدب الوجيز لا تشكلُ حالةً أجناسيّةً أدبيةً صرفةً، يقولُ طوماشوفسكي بأنَّه ُ»يمكنُ تحديدُ الجنسِ الأدبيِّ بمقارنةِ الخصائصِ النوعيَّةِ التي تصطلحُ بوظيفةٍ مهنيةٍ في الخطابِ»، بمعنى أنَّ الطرائقَ التي تنظمُ تركيبَ العملِ هي طرائق مهنيةٌ من خلال إخضاعِ الطرائقِ الأخرى المستخدمةِ في النصِّ لخلقِ جوهرِ النصِّ. وهكذا فإن مجموعة الخصائِصِ العامّةِ أو المتعاليةِ التي ينتمي إليها كلُّ نصٍّ على حدة، هي ما تحدّد نوعه وأجناسيته واصطفافَهُ. ويقول فنسنت في تعريفه للأنواع الأدبية «إنها ليست سوى صيغ فنية عامة لها مميزاتها وقوانينها الخاصة وهي تحتوي على فصول أو مجموعات ينتظم خلالها الإنتاج الفكري على ما فيها من اختلاف وتعقيد»، فمثلاً الشعر كجنس أدبي يندرج تحته الشعر النثري وشعر التفعيلة وشعر الومضة، وكذلك الأمر في الرواية مثلاً، يمكن تقسيمها الى مجموعات بوليسية، تاريخية، سيرة ذاتية وغيرها من المسمّيات التي تندرج كلّها تحت النوع الأجناسي الرواية. هكذا يمكن أن نشبه التطور البيولوجي كحالةٍ أجناسيّة تحدد اصطفاف الأنواع الحيوية، كما أكد فنسنت على جوهرية الأجناس الأدبية، من حيث تطوّرها الى الحالة الكاملة عند اصطفاف وتكامل عناصرها.

هكذا نَرى أن الجنسَ الأدبيَّ يختصُ بنوعٍ واحدٍ فقطْ من الأدبِ قصةٌ قصيرةٌ، روايةٌ، شعرٌ بأنواعِهِ نظراً لوجوب تكامل متطلباته، وغيرَ ذلكِ . لذلكَ نجدْ أنَّ هناك إشكالية في التسميةِ، التي تشمل نحو ثلاثة أجناس أدبية. وهنا تكمن المشكلة، بعدم القدرة على خلق حالة أجناسية فريدة منها..

فإذا كان الإيجاز هو السمة البارزة لهذه التسمية، فهو يعتبرُ حالةً عامَّةً وتقنيةً تتبعُ للكثيرِ من الأجناسِ الأدبيةِ ق ق ج، شعر ومضة ، فإذا سمّينَا الحالةَ الاختزاليةَ لبعضِ الأجناسِ الأدبيةِ بالأدبِ الوجيزِ، فبماذا نسمّي النوعَ الآخرَ من الأدبِ الروايةُ والقصةُ القصيرةُ والخاطرةْ الأدبُ الطويلُ، أو المسهَبْ؟ فهذه اشكاليةً لا تحلُّ بالتسميةِ فقطْ لمجردْ أنْ نطلقَ تسميةً دون أن تحتوي على موجباتِ صوابيَّتهِا، فالتسميةُ لا تقدمُ أي حلٍّ لبعضِ مشكلاتِ هذهِ الأجناسِ الأدبيّةِ بل تعطي معنىً شكلياً فقطْ لاَ يقدمُ ولا يؤخِّرُ، بمعنى أنَّهُ حالة وصفيّة تصنّفُ جزءاً منَ الأجناسِ الأدبيّةِ وتضعها في سلةٍ ما، فقضايَا ومشاكلَ القصةِ ق ج مثلاً، يحلُها الدخولُ الى عمقِ هذا الجنسِ الأدبيِّ والخوضُ في تقنياتِهِ وإشكالياتِهِ، وليسَ بالهروبِ الى تسمياتٍ تبتعدْ عن تَخصصِه.

فتسميةُ الأدبِ الوجيزِ إذاً نعتبرُهَا حالةً وصفيّةً لا تقدّم الفائدةَ منْها كصيغةٍ تطويريةٍ لأيّ جنسٍ أدبيِّ، إنَّما للأسف تقعْ في مطبِّ الوصفِ السلبيِّ للتسميةِ. فالتسمياتُ يجب أن تعبرَ عنْ ديناميكيةِ الحالةِ من خلالِ تفاعلِ مضمونِها معها في تعالقٍ متداخلٍ لتأطيرِ الجنسِ الأدبيِّ المعني، هكذا يمكنُ أن نفهمَ مثلاً القصة ق ج، أو الهايكو، فكل جنسٍ أدبيًّ يعبرُ عنهْ بديناميكية التأطيرِ للتسميةِ وعلاقتِهِ بمواصفاتِ وعناصرِ هذا الجنسِ الأدبيِّ. بالتالي فإن التسمية لا تشكّل حالة خلق جديدة على مستوى النوع أو الجنس، لأنها تشكل حالة ضبابية لا تمثلها أية عناصر أو خواص أو محددات، كما عبر عن ذلك فنسنت وبرونتيير، حين أكدا على وجود عناصر تختص بالجنس الأدبي، كحالة تاريخية تطورية.

فمَا يمكنُ أنْ يقدمَ أو يكرِّسَ في هذا المجالِ هو التشجيعُ على الوجازةِ في الأدبِ، فالاقتصادُ أو الاقتضابُ أو التكثيفُ، لا يقتصرُ على جنسٍ أدبيٍّ واحدٍ فقط، بلْ هو يشملُ الكثيرَ منْ الأجناسِ الأدبيةِ كالقصةِ القصيرةِ جداً، الهايكو، القصة القصيرة، وكذلك الروايةِ يمكنُها الاستفادةُ من الاختصارِ، حتى لا تقعْ في مطبِّ الاستهلاكِ والرتابةِ، لأنها تترهلْ بكثرةِ الوصفِ وشرحِ تفاصيلِ تبطئُ من عمليةِ السردِ، ولا ننسَى الشعرَ فهوَ الأكثرُ حاجةً الى التكثيفِ لإظهارِ صورهِ الفريدةِ التي تبرقُ وتومضُ بسرعةٍ، فتاريخياً هناك الكثيرُ من الأنواعِ المختصرةِ شعرياً مثل الفوريزم الذي انتشرَ كثيراً وغيرَه.

الرّأيُ الصائبُ الآنَ هوَ التركيزُ على جودةِ ما يقدّم في كلِّ الأجناسِ الأدبيةِ كمَا ركّز على ذلك الشاعرُ الكبيرُ أدونيس في افتتاح الملتقى الأولِ في بيروتْ، وهذاَ ما ندعو اليه من خلالِ التركيزِ على كلِّ جنسٍ أدبيِّ على حدة، حتى يستطيعَ أن يأخذَ حقَّهُ من الاهتمامِ والنقدِ والكتابةِ، ولذلك أرى أن القصةَ القصيرةَ جداً مثلاً يستسهلها الكثيرُ رغمَ صعوبةِ كتابتهاِ، لأنها قادرةٌ على اختصارِ أفكارٍ كثيرةٍ ضمنَ جملٍ محدودةٍ، لذلك فهي تحتاجُ الى الخوض في نقد ما يقدّم والى تحفيز الكتاب والنقّاد، والى تجاوز المضامين المكرّرة وخلق حالة إبداعية تجاوزية كما في كل الأجناس الأدبية.

بالإضافة الى العناصر التي تحدّد ماهيّة الأجناس الأدبية، نرى أنه يمكن لهذه الأجناس أن تستخدم تقنيات مشتركة، كالتناصّ مثلاً، أو الغرائبية والإزاحة والاستعارة والإيحاء وغيرها، فلكل جنس أدبيٍّ خصوصيته الإبداعية التي يجب أن ندعم تطوّرها، لا أن نساهم في رتابتها من خلال جعلها درجة ثانية من الاهتمام، من هنا نرى الإشكالية الكبيرة لمصطلح الأدب الوجيز، بالخلط بين مجموعة من الأجناس الأدبية، كما أنه لا يمكن له أن يمتلك عناصر تحدّد له هوية، لأنه بالأصل يُعتبر إطاراً لمجموعة أجناس أدبية أخرى كما ذكرنا شعر الومضة، الهايكو، ق ق ج .

فالأدَبُ بشكلٍ عام يسعى لتعزيزِ التفاعلِ الحضاريّ، وليسَ جزءاً منه فقط من يقومُ بذلك، بمعنى أنَّ كلَّ الأجناسِ الأدبيّةِ الوجيزةِ والمسهبةِ تتفاعلُ وتتعالقُ لخلقِ حالةٍ حضاريةٍ ثقافيةٍ فكريةٍ، تساهمْ في رفعةِ الحالةِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ والحضارية للمجتمع بشكل عام. فمهما كتبنا أو تحدثنا غيرَ ذلك، فلن يغيرَ ذلك شيئاً من كونِ القصةِ القصيرة جداً مثلاً جنساً مستقلاً، وكذلك الشعرُ والهايكو والقصة القصيرة كما الرواية، فما فائدةُ أنَ نجتزئَ بعضاً منها ونضعَها في سلّةٍ مختلفةٍ؟ أليسَ ذلكَ يعتبرُ طريقة الى وقفِ اندفاعةِ هذه ِالأجناسِ من خلالِ اقصاءِ تسميتِها الأصليةِ ودفعِها الى الوراءِ مقابلَ دفعِ تسميةٍ فرعيةٍ الى الأمامِ، وهذا ما يذهبُ بريقَ الجنسِ الأدبيِّ الأصليِّ، وقد تؤدي الى وقف الاندفاعاتِ التطوريةِ لها.

كما أن مقولة أن الأدب الوجيز هو أدبٌ تجاوزيٌّ، تسمية فيها إعماءٌ لما هو تحتها من مكوّنات أجناسية، فكلُّ جنس أدبي يجب أن يكون تجاوزياً، بمعنى أن لا يكرّر الكاتب نفسه، وأن يقدّم باستمرار شيئاً جديداً ومبتكراً أسلوبياً وحكائياً وشعرياً، فالشاعر الذي يكرّر النصوص نفسها وبالصور والتقنيات نفسهما، لا يقدّم جديداً، بل هو تكرارٌ لما كتبه، وكذلك كاتب القصة القصيرة جداً وباقي الأجناس الأدبية، فكل كاتب يجب أن يكون تجاوزياً، يتفوق على إبداعاته السابقة، ليحقّق اختراقاً أدبياً يضمن له الاستمرارية.

أسئلةٌ أعتقدُ بأنهَّا ستأخذُ طريقَها الصحيحَ إلى الاجاباتِ المعقولةِ، فتشعّب الاهتمامُ الأدبيّ بطبقاتِ تبتعدُ عن المستوياتِ الإبداعيةِ كما هو الحالُ عندَ الأجناسِ الأدبيةِ، يقللُ مستوى الاختراقِ الابداعيِّ، والاهتمام الكليِّ بها، فالتركيزُ على جنسٍ أدبيٍ واحدٍ يعطيه زخماً ابداعياً كبيراً يساعدُ في تفاعِلهِ الحضاريّ والمجتمعيّ، وخاصةً اذا ترافقَ مع تغطيةِ نقديةٍ مناسبةٍ، تساعده على تجاوز المألوف، واختراقه للمنجز التخيَّلي الذي يساعد المنتوجَ الأدبي على خلق حالته الابتكارية. أمْا مقولةُ أن الأدبَ الوجيزَ أصبحَ حاجةً وجوديةً، فلا أرى ذلك واقعياً، لأن الأجناسَ الأدبيَة بشكلٍ عامٍ تهتمُ بكلِّ القضايَا الجزئيَةِ والمصيريّةِ وكلّها تشكّلِ حاجةً وجوديةً وخاصةً بتفاعلِها مع مختلفِ شرائِحِ ومستوياتِ المجتمعِ نظراً لتعددِ اهتماماتِ هذه الشرائحِ، وليس جزءاً منها فقط.

كاتب وناقد/سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى