مرتع الخيانة انعدام الأخلاق

د. جميل محيدلي

يطفو اليوم على سطح الأزمة اللبنانية موضوع العميل عامر الفاخوري، وهو نتيجة لما يتفاعل في باطن هذا المستنقع المتحلّل والمدعو النظام الطائفي، لبنان وطن مشرّعة أبوابه للانقسام والاتهام السياسي المذهبي، وقد تجاوزت الهوية الطائفية والانتماء الوطني وأصبح الارتماء في أحضان الخارج ظاهرة لا تحتاج إلى ورقة التين، وأضحت المسلمات السيادية وجهة نظر، ماذا نتوقع من نظام لا يحرّك ساكناً عند حوادث خطف اللبنانيين في الخارج، ودولة تردّ على الاعتداءات الإسرائيلية بالاستنكار من باب رفع العتب فقط، وحكم لا يضع خطوات عملية لمواجهة الانكشاف الأمني، لبنان وطن مستباح للخارج وخصوصيات الناس مخترقة من أجهزة دولية بعناوين مختلفة، جمعيات خيرية ومحكمة دولية وشركات استشارية وداتا الاتصالات عارية حاضرة للفحص السريري، ونظام مصرفي أسير القرارات الدولية، واقتصاد ذليل تحت رحمة التصنيف الخارجي، وأرواحنا رهن التسوّل من الخارج بسبب الديون المتراكمة و»سيدر» وأخواتها.

أمعنّا في سياسة المحاصصة الطائفية وقسّمنا كلّ شيء المرافق، مقدرات البلد، التوظيف والتعيينات… ولم نكتف، حتى المحظور عليه قسمة تجلت في قوانين العفو العام التي شملت مرتكبي الجرائم والسرقات والإرهاب، وحتى خيانة الوطن، وليس آخراً إسقاط المحاسبة عن سارقي المال العام. هكذا سمح نهج «عفا الله عمّا مضى» للمجرم والسارق أن يتمادى وللخائن الفار أن يعود.

لا يُعالج موضوع العميل فاخوري بردات الفعل الجماهيرية، فمن المحتمل أن تؤدّي هذه العفوية إلى فوضى وإلى انزلاق في أعمال انتقامية وفتنويّة، وقد شهدنا خلال هذه الأزمة اتهامات عشوائية تطال أفرقاء سياسيين أو حزبيّين وشهدنا تدخلاً أجنبيّاً خبيثاً هدفه تغذية هذا النزاع.

الرأي العام مهتاج اليوم وقد يفسد حسّه السليم موجات التحريض الطائفي الغرائزي ضدّ الخائن أو معه، ونخشى أن يتمّ جمع عناصر الفتنة الداخلية ومن ضمنها هذه الحالة والاتهام الأخير الصادر عن المحكمة الدولية لبثها في مؤامرة تؤدّي إلى مواجهة عاقبتها وخيمة، ومن يستسخف بهذا الكلام فليتذكر حادثة قبر شمون التي هزّت كيان الأرز منذ بضعة أشهر.

ليس المطلوب تدخلاً سياسيّاً وتسوية القضية كما جرت العادة بالتراضي، إنما حسمها في القضاء حصراً بعيداً من الشارع وتداعياته، لأنّ أوصاف هذه الأزمة وسبل إدارتها قانونية وليست سياسية.

أما العلاج السياسي لأزمة كهذه فيبدأ بإعادة تأسيس الوطنية اللبنانية على قاعدة الأولويات السيادية وتغذية ثقافة الحرية والاستقلال والمساواة من خلال عقد وطني يقوم على إرساء الدولة المدنية الضمانة الوحيدة لهواجس الطوائف.

إذاً الجهة الصالحة لمحاسبة العملاء هي القضاء والذي يستند بدوره إلى مواد قانونية في أحكامه، مواد لم ترتق إلى الدستور والذي للأسف لا ذكر فيه لموضوع الخيانة سوى في المادة ستين والتي تتكلم عن خيانة رئيس الجمهورية، والمادة سبعين عن خيانة رئيس ومجلس الوزراء، لذلك نطلب من السادة النواب ومن كلّ الكتل السياسية إضافة مادة دستورية يتمّ الإجماع عليها، يحدّد فيها بوضوح أنّ عدوّنا الوحيد هو «إسرائيل» وكلّ من يتعامل معها هو خائن عقابه الإعدام أو السجن المؤبد، حكمٌ لا يسقط مع مرور الزمن.

هذا ما يجعل من قضية العمالة شأناً أخلاقياً قانونياً مرتبطاً بالوحدة الوطنية والعيش المشترك ويبعدها عن التسييس لتصبح من المسلمات الدستورية وليست وجهة نظر.

نحن بحاجة إلى منظومة وطنية تبدأ في التربية المنزلية والمدرسية عبر إدخال قضية الصراع مع العدو الإسرائيلي في مناهج التعليم والتوعية على جرائم الإحتلال وارتكابات عملائه، هي تنشئة وطنية تزرع هذا الفكر في النفوس منذ عمر البراعم.

إنّ حب الوطن وفداءه ومواجهة الإغراءات الخارجية هو نهج حياة في كلّ الأوطان ولكنه وهم في لبنان، البلد الذي ينخر فيه الفساد كرامة الناس، ويرزح المواطن تحت عبء اقتصادي ساحق والنوافذ إلى الخارج هي سند العيش والاستقواء على الآخرين.

الحلّ يبدأ بالإصلاح الأخلاقي إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى