ما تداعيات الخلافات التركية ـ الجزائرية؟

كمال حميدة

شدّدت الحكومة التركية إجراءاتها على دخول الجزائريين أراضيها، حيث فرضت شروطاً جدديدة لمنحهم التأشيرة. غير أنّ هذه الشروط لم تنزل برداً وسلاماً على الصعيد الديبلوماسي، فكان ردّ وزارة الخارجية الجزائرية أنها لن تلتزم الصمت حيال الإجراءات الجديدة، متوعّدة أنها ستلجأ إلى المعاملة بالمثل في المدى القريب.

خلفية هذا المسعى لفرض «عقوبات» جديدة على المسافرين الجزائريين كشفته مصادر مسؤولة تركية أنّ ثمة من يتخذ ساحتها نقطة عبور للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، في وقت لم تعط أنقرة رقماً حول عدد الذين اخترقوا حدودها الجغرافية بطريقة غير نظامية، أو بشأن الذين هم فعلاً في عداد الاحتجاز لديها. فضلاً أنّ السلطات التركية تجاهلت تبليغ نظيرتها الجزائرية قبل الإقدام على هذا الإجراء دون إنذار مسبق، ما وضعها أمام العديد من التساؤلات، أبرزها أنّ تركيا تستخدم ورقة الهجرة للضغط على الأوروبيين للتناغم مع مطالبها والتعاطي مع مقترحاتها بشكل إيجابي، وهي بذلك تظهر للعواصم الأوروبية أنها جادة في هذا الملف عبر تشديدها وصرامتها في محاولاتها للتصدّي بحزم للهجرة غير القانونية إلى أوروبا بوجه الخصوص.

إلى جانب ذلك التطورات الأخيرة بشأن الملف السوري ليس من المستبعد أن تكون سبباً غير معلن في استحداث تقييدات مشروطة جديدة على الوافدين الجزائريين، كرسالة موجهة تحديداً للحكومة الجزائرية بعدما دانت وزارة الخارجية التدخل التركي في منطقة إدلب السورية، والتي اعتبرته أنه يطيل عمر الأزمة. وهذا الموقف يتجلى وضوحاً هو انتهاك صريح للسيادة السورية ويتنافى مع القوانين الدولية واحترام سيادة الدول.

في هذا السياق، فإنّ تاريخ العلاقات بين الجزائر وتركيا لا تحكمها الودّية المطلقة عبر مختلف أطوارها منذ انفصال الجزائر عن الحكم العثماني، وظلت العلاقات خاضعة لأوامر ونواهي سلطنة الباب العالي لأكثر من ثلاثة قرون. وفي عام 1830 وهو التاريخ ذاته المشؤوم المحفوط في ذاكرة الجزائريين بهجوم القوات الفرنسية على العاصمة الجزائرية وإخضاعها تحت سيطرتها المعادية التوسعية داخل العالم العربي. في تلك الفترة تواطأت السلطنة العثمانية مع الغزاة الفرنسيين، إذ أنها لم تقف مع المقاومين الجزائريين في خندق واحد بالدعم المالي والعسكري، بل أنها وفرت على ذخيرتها بالشحّ عن إمدادهم بالسلاح. والأنكى من ذلك أنّ حاكم البلاد بالوصاية الداي حسين استسلم خلال أيام معدودة فقط للفرنسيين مقابل ضمانات سلامة خروجه هو وأسرته وحاشيته بصحبة ثروته الطائلة قاصداً مصر، تاركاً مفاتيح الخزينة المالية والشؤون العامة تحت التصرف المطلق لحكم الغزاة المحتلين.

وغير بعيد عن ذلك، أنه خلال حقبة ثورة التحرير في الجزائر التي دامت سبع سنوات ونصف السنة اصطفّت مواقف الحكومة التركية إلى جانب الاستعمار الفرنسي على صعيد القرارات الأممية، حتى الاعتراف باستقلال الجزائر تأخر إلى حين، وهو ما عزّته منابر مسؤولة تركية إلى أنّ العضوية في حلف شمال الأطلسي ـ الناتوـ دفعتها إلى عدم الاعتراض في وجه السياسة الغربية، كي لا تواجه امتعاض العاصمة الفرنسية بصفتها أحد أبرز الأطراف المؤثرة في الشأن الأوروبي، في وقت أيضاً أنّ صوت الشعب كان لا يعلو فوق الموقف الحكومي الرسمي.

وتبقى عملية تزويد السلاح إلى الثوار الجزائريين عبر ليبيا عام 1957 التي تولى مهمتها أعمر أوعمران ممثل عن جبهة التحرير الوطني هي اللفتة الحاضرة لدى الأتراك بمساندتهم «رمزياً» في دعم مسيرة الكفاح المشروع ضدّ كلّ أشكال الاستعمار الفرنسي.

أما عقب استقلال الجزائر عام 1962، سلكت العلاقات بين أنقرة والجزائر مساراً جديداً على مستوى فتح السفارات، والعمل بالقيام بأنشطة صداقة تجمع بين الشعبين لعوامل تاريخية وثقافية والجغرافية على ضفة البحر المتوسط، مع أنّ تلك العلاقات سادتها البرودة في الفضاء السياسي، لكون الجزائريين لا يزالون يتحسّرون بمآسي مرحلة الاستعمار وأكلافها الباهظة وعواقبها الوخيمة على واقعهم الاجتماعي والنفسي، وإلى جانب الاستياء إزاء مواقف الدول التي تخلت عنهم في حقبة جرائم الاستعمار الفظيعة. إلا أنّ الزيارات الثلاث للرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مدى مراحل مختفلة في إدارة شؤون الحكم حاولت بواسطتها ترميم الجسور بين البلدين والتخطيط بترقيتها إلى مستوى تأسيس شراكة اقتصادية عبر تضخيم حجم الاستثمارت لهدفين أساسين: أولاً جعل الجزائر سوقاً تجارية اقتصادية أوسع خارج الاتحاد الأوروبي، وذلك بتوظيف العامل التاريخي على وتر الحنين إلى فترة حكم العثمانيين، ثانياً الاعتماد على الموقع الاستراتيجي الجزائري كبوابة الانفتاح والتوسع النفوذي داخل القارة الأفريقية، جراء ما تواجهه سياسة أردوغان من حالة عدم الاستقرار وصعوبات التحديات الجيوـ سياسية مع دول الجوار والعواصم الإقليمية.

وبشأن التطورات الأخيرة بالجزائر، خصوصاً حول التظاهرات السلمية أبدت الحكومة الأردوغانية موقفاً محايداً بعدم التدخل في الشؤون الداخلية خلال الأسابيع الأولى من الحراك الشعبي. غير أنّ هذا الاتجاه انقلب على حين غرة، حينما حذر مستشار الرئيس التركي ياسين اقطاي الشعب الجزائري من سرقة «ثورته»، وهو تدخل غير بريء ويأتي ضمن المناورات الاستفزازية، وليس من المستبعد تأجيج الخلافات وتسعير الانقسامات، بالإضافة إلى دلالات تحمل نوايا التحريض على الصدام والفوضى، والبحث عن إعطاء صورة مشوّهة عن الواقع الأمني كنقطة رسمت في دائرة الخطوات لمضايقة الجزائر من الخارج في أدق مراحلها التاريخية، على الرغم أنّ مسيرات المتظاهرين أثبتت سلميتها، وأنّ مطالبها قوبلت بتغيّرات في التركيبة الحاكمة ومحاربة الفساد والمضيّ في إجراء الانتخابات في أجل مسمّى.

وفوق ذلك تزداد الشبهات حول أنّ المسعى التركي لا يتوقف عند الاستثمار في ظروف مستجدات الساحة الجزائرية لمعرفة انعكاسات نتائجها، فالمراقبة القائمة عن كثب ذات بعد نفوذي أو تكتل موالِ يكفل مستقبلاً مصالح أنقرة بمشروعاتها التوسعية بعيداً و من وراء فضائها الحدودي.

كاتب جزائري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى