توفيق الإمام خلال حفل إزاحة الستار عن اللوحة الفسيفسائية الأثرية المُستعادة من متحف مونتريال: مبادرات إعادة القطع الأثرية رسائل انتصار ثقافي لأبناء الحضارة السورية على اللصوصية والهمجيّة والتخلّف

رانيا مشوِّح

لتاريخها أثر البداية ومن أوابدها يستمدّ العالم أصل الحكاية، فمن قوة الأثر واستقاء العبر استلهمت الأجيال روح الأبدية، فكانت الشواهد والتماثيل الباقية ثروة الأجيال الحالمة وذكرى المفارقين ولقيمتها عبق التاريخ وروحه، فلا السلف استكان على استباحة تاريخه ومن قوة عنفوان الخلف حلّت اللعنة الأبدية على من يحاول طمس حضارتها وتاريخها وكبريائها وإخفاء نورها الساطع بخمار أسود قاتم، فهبّوا ولبّوا نداء الروح الخفية وأكدوا أنهم المستحقون الأجدر بكل جميل وعظيم فهم السوريون رواد الأرض عظماء الدنيا، ومن هنا واستكمالاً لمسيرة تحرير الإنسان وبرعاية وزير الثقافة محمد الأحمد قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بإزاحة الستار عن لوحة فسيفساء أثريّة سوريّة تمّت استعادتها من متحف مونتريال للفنون الجميلة في كندا بجهود وطنية، وذلك في حديقة المتحف الوطني بدمشق.

افتتح الحفل توفيق الإمام ممثل ومعاون وزير الثقافة والذي ألقى كلمة في هذه المناسبة قائلاً: أيها السيدات والسادة بالأمس القريب احتفلنا في هذا المكان باستعادة قطعتين أثريتين من إيطاليا أعادهما المغترب السوري الدكتور رضوان الخواتمي، واليوم نحتفل باستعادة قطعتين أثريتين كانت قد هُربتا إلى كندا نهاية القرن الماضي وهما قطعتان من لوحة فسيفساء كانت تشكّل أرضية لدير أو كنيسة يعود تاريخها إلى نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس للميلاد، وقد تمّت مصادرة هاتين القطعتين من قبل السلطات الكندية سنة 1999 ومن ثم تمت إعارتهما إلى متحف الفنون الجميلة في مونتريال سنة 2004 وكان من الواجب إعادة القطعتين في شباط سنة 2015 وفق الاتفاقية الناظمة لذلك، لكن السلطات الكندية منعت إعادة القطعتين رغم المطالبات الرسمية المتتالية بهما، إلى أن تمكّن المغترب السوري محمد وسيم الرملي من التدخّل ومتابعة القضية مع الجانب الكندي ونجح في استعادة القطعتين المذكورتين ونقلهما على نفقته الخاصة إلى دمشق، يدفعه إلى ذلك حبّه لوطنه وانتمائه لشعبه ووفائه وإخلاصه لأهله وللتراب الذي حضنه صغيراً. وقد أراد من خلال فعله النبيل هذا أن يسهم في بلسمة أحد جروح الوطن النازفة والذي يتمثل بهذا الكم الهائل من الدمار والسرقة التي طالت التراث الثقافي السوري في كل المواقع الأثرية التي وقعت تحت سيطرة الإرهاب فتحيّة إلى هذا المواطن السوري المغترب وإلى أمثاله المسكونين بهموم وطنهم والمشاركين له قيامته من الآلام التي عانى منها وصولاً إلى أن يأخذ موقعه الذي يليق به في خريطة هذا الكون.

وأضاف: إن استنزاف التراث السوري ليس جديداً فلطالما تعرّضت المواقع الأثرية للسرقة والنهب والتدمير بحكم الجهل بقيمتها والعدد الكبير لها والانتشار الواسع لهذه المواقع مما يجعل من الصعب تأمين الحماية الكافية لها، لكن تدمير هذا التراث تحوّل خلال الحرب إلى عملية ممنهجة ومدبّرة يديرها أعداؤنا في محاولة منهم لسرقة مقدرات الشعب السوري والنيل من حضارته ومحو ذاكرته واجتثاثه من جذوره وتحطيم كل ما يجمع أبناءه ومن ثم إيصالهم إلى حالة من التيه والضياع تسهل استلابهم الثقافي وإدخالهم إلى انتماءات خاطئة لم يعرفوها طوال تاريخهم.

وأضاف الإمام: إن هذه المبادرات المتزايدة في إعادة هذه القطع الأثرية من الداخل والخارج ليست إلا رسائل انتصار ثقافي لأبناء الحضارة السورية على اللصوصية والهمجية والتخلّف، وهي ترفد ما يقوم به جيشنا العربي السوري من جهد وتضحيات في سبيل حماية ورعاية تراثنا الوطني. ومن المهم أن نذكر هنا، ونحن نحتفل بأعياد تشرين التحرير، أن جيشنا الباسل بوحداته المختلفة تمكن حتى الآن من استعادة 25 ألف قطعة أثرية من المناطق التي تمّ تحريرها والتي كانت تحت سيطرة عصابات الإرهاب، فتحية لهذا الجيش البطل ولقائده الرئيس بشار الأسد والعزّة والخلود لأرواح شهداء هذا الوطن. كما تحدّث مدير عام الآثار والمتاحف الدكتور محمود حمود بدوره قائلاً: المديرية قد وثّقت الكثير من المواقع الأثريّة التي تعرضت لكارثة حقيقية بفعل أعمال التنقيب غير القانونية، حيث تم تهريب الكثير من القطع الأثرية إلى الأسواق العالمية. وأمام هذه الأفعال المشينة من قبل بعض المتآمرين على تراثهم وحضارتهم، الذين لا يعون قيمة هذا التراث، وفي ظل العدوان الجائر على سورية نجد بعض مواطنينا المغتربين كالسيد محمد وسيم الرملي الذين لم يغادرهم حب الوطن والولاء له يتدخّلون كلما سنحت لهم الفرصة لإنقاذ تراثنا وآثارنا معبّرين بذلك عن إنسانيتهم وانتمائهم للوطن. ولذلك لا بدّ لنا من تكريم مثل هؤلاء المواطنين وشكرهم على مواقفهم النبيلة التي تنبض بالوفاء والإخلاص لبلدهم، وليصبحوا مثالاً يُحتذى به للجميع.

وأضاف: كان هناك حوالي 34 قطعة أثرية صادرتها السلطات الكندية في أحد الموانئ وبعد التعرّف على أنها من مصدر سوري تمت استعادة معظم هذه القطع باستثناء هاتين القطعتين اللتين تمّت إعارتهما إلى متحف مونتريال للعرض، وكانت تجب استعادتهما منذ عام 2011 لكن الحكومة الكندية تذرعت بالحرب وعدم إمكانية إرسالها إلى دمشق، إلى أن تم توكيل أحد السوريين المقيمين في كندا «محمد وسيم الرملي» وتمكّن من استعادتها. يذكر أن اللوحة الفسيفسائية طولها 347 سم وعرضها 273.5 سم، من المرجّح أنها اكتشفت في أحد مواقع شمال غرب سورية بين محافظتي إدلب وحماة، وهي مستطيلة الشكل مؤلفة من قطعتين، وتحتوي على أحجار كلسيّة ملونة وأشكال تصويرية وزخرفية منوّعة، ومن المشاهد الرئيسية في اللوحة الحملان المتناظران وهو موضوع رمزي ديني مسيحي شائع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى