تركيا بين الأمس واليوم.. وطوفان نوح بالمرصاد ليست معاهدات إنما هي أضغاث أحلام..

سماهر الخطيب

بعد حوالي شهر من الآن يحتفل العالم في الحادي عشر من تشرين الثاني 2019 بمرور عام ومئة على انتهاء الحرب العالمية الأولى. بالرغم من أنها لم تكن آخر الحروب العالمية، إلا أن تبعاتها على منطقتنا لا تزال قائمة إلى اليوم، وفي مقدمتها الأطماع العثمانية إذ اعتبرت هزيمتها عام 1922 المسمار الأخير في نعش الرجل المريض، والقشّة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لـ»السلاطين» الأتراك، لينحسر نفوذها إلى الأراضي التركية المعروفة اليوم بـ»الجمهورية التركية»، والتي يحاول جاهداً رئيسها الحالي رجب طيب أردوغان إعادة أمجاد أجداده إن عبر خطاباته وتأجيج مشاعر مناصريه القومية أو عبر إيعازات لصنّاع الدراما والسينما لتوجيه الأنظار حول تاريخ أجداده أو استغلال الحرب الأميركية على العراق لبسط نفوذه على الموصل وصولاً للعب الدور الأساسي في الحرب العالمية على الأرض السورية للسيطرة على ما لم يستطيع مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك الحصول عليه في الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمت مع دول الاحتلال البريطاني والفرنسي آنذاك..

«السناجق الشمالية» بداية الأطماع التركية

وإذا ما عدنا إلى الأطماع التركية في الأراضي السورية فحتماً علينا العودة إلى «السناجق الشمالية» أو قيليقية والجزيرة الفراتية العليا وهي مناطق من شمال سورية تمّ ضمها إلى تركيا بموجب اتفاقية أنقرة عام 1921 بين فرنسا وتركيا مقابل اعتراف الأخيرة بالانتداب الفرنسي على سورية.

وقدّرت مساحة هذه المناطق بما يزيد على 18 ألف كيلومتر مربع أعطيت لتركيا من الأراضي السورية.

وتقع هذه المناطق شمال الخط الحديديّ بين اسطنبول وبغداد، الذي استعمل خطاً معدلاً للحدود بين تركيا وسورية في معاهدة لوزان، حتى نقطة التقاء الحدود السورية – العراقية التركيّة حالياً. وهذا ما وضع المناطق التالية ضمن الأراضي التركية: «مرسين وطرسوس وقيليقية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر».

إضافة إلى ذلك، مر خط الحدود الجديد الذي أقيم فوق سكة الحديد في وسط مدن نصيبين وجرابلس ورأس العين، مما قسمها بين سورية وتركيا.

وتبنّى الحلفاء الاتفاق الثنائي في معاهدة لوزان عام 1923 لترسم خطاً جديداً للحدود عام 1923 بين تركيا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى.

وخير شاهد على سوريّة هذه المناطق ما ذكره الشريف الإدريسي خلال رحلته هذه المناطق، في القرن الثاني عشر الميلادي، في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق».. وتشكل هذه المناطق الجزء الشمالي من الهلال الخصيب بما تضمّه من سهول ممتدة وأراضٍ خصبة مثل سهل حران ومصادر مائية وفيرة من خلال أنهار الفرات ودجلة والخابور.

وتُعدّ هذه الأراضي جغرافياً جزءاً من سورية الطبيعية، حيث تقع جنوب جبال طوروس، الحد الطبيعي بين سورية وتركيا.

وخلال القرن السابع عشر، نجح العثمانيون بالقضاء على الإقطاعيات والإمارات الوراثية شمال حلب، وأعطيت الأراضي، للإنكشارية وكبار الفرسان العثمانيين المعروفين باسم «سباهية»، فيما أشار بعض المؤرخين إلى أنّ «إلغاء الإقطاعيات وإخضاعها للجيش كان فيه تغليب للعنصر التركي على العنصر العربي». وبالتالي تعتبر هذه الفترة بداية التغيير الديموغرافي الذي أدى إلى نشوء قضية «الأقاليم السورية الشمالية».

كما وردت الإشارة إلى هذه الأقاليم ولواء اسكندرون كمناطق متنازع عليها في مراسلات حسين – مكماهون. إذ ذكر الكتاب الذي أرسله حسين بن علي شريف مكة إلى هنري مكماهون الممثل الأعلى لبريطانيا في مصر في 14 تموز 1915، أن «الحدود الشمالية للدولة العربية المستقبلية يجب أن تمتدّ إلى مرسين وأضنة بما يشمل لواء الاسكندرون»، لكن مكماهون اقترح في كتابه الذي أرسله إلى الشريف حسين في 24 تشرين الأول 1915 «فصل هذه المنطقة» زاعماً أن سكانها «ليسوا عرباً تماماً»، فرفض الشريف حسين هذا الاقتراح وأصرّ على رأيه في الكتاب الذي بعث به إلى مكماهون في 15 تشرين الثاني 1915، ولكنه رضي أخيراً بـ»التنازل» عن مرسين وأضنة فقط.

وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، أثناء تقسيم «ممتلكات» الدولة العثمانية بين الحلفاء المنتصرين في الحرب، وبموجب الاتفاق المعقود بين فرنسا وإنكلترا وإيطاليا، في العاشر من آب 1920 جعلت هذه المنطقة ملحقة بمنطقة المصالح الخاصة بفرنسا التي كانت حددتها اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 والتي أقرّت بسيادة فرنسا على الأقاليم الواقعة بين قيليقية والضفة الغربية لنهر الفرات. وبموجب اتفاق آب المذكور وحسب البيان الوارد في المادة «7» تركوا لسورية التي وقعت تحت الاحتلال الفرنسي مدن «كلس وعنتاب وبيره جك وأورفة وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر». وعندما عقد الحلفاء معاهدة سيفر مع تركيا عام 1920 أقرّت تركيا بـ»منطقتي الاسكندرون وقيليقية كجزء متمّم لسورية».

إلا أنّ الأصوات المعترضة على الحدود الجديدة كانت قليلة، إذ انشغلت المنطقة بملفات التقسيم الكثيرة، وبهجرة اليهود إلى سورية الجنوبية أي فلسطين وبداية بناء مشروعهم الاستعماري.

وبالرغم من ذلك، كان هناك رفض لإلحاق هذه الأقاليم بتركيا ونصّ بيان المؤتمر السوري العام وبيان أول وزارة سورية انبثقت عنه في عام 1920 على «وحدة سورية واستقلالها بكامل ترابها».

ولكــم فــــي إبراهيــــم هنـــانــو عبــــرة يــا أولــي الألبــاب

إضافة إلى ذلك، قام صبحي بركات وإبراهيم هنانو بتنظيم مقاومة ضد الفرنسيين في تلك المناطق. وهنا نستذكر ثورة «الشمال السوري» لتكون درساً في التاريخ لمن لا يزال يعوّل ممن يسمّون أنفسهم بـ»المعارضة السورية» على حليفهم التركي بدلاً من دولتهم السورية، إذ اتفق إبراهيم هنانو مع الأتراك حينها على دعمه بـ»السلاح»، مقابل رفع العلم التركي على معسكرات الثوار وعدم ترسيم الحدود حتى رحيل الاحتلال عن البلدين.

وعقد هنانو الاتفاق مع «صلاح الدين عادل باشا» قائد الجيش التركي في مركز «مرعش»، الذي أمدّ الثورة بالمال والسلاح.

وتضمّن الاتفاق بنوداً عدة أهمها: «تقديم مساعدات للثوار في سورية، العلم الذي سيرفع يكون على وجهين الأول العلم العربي والثاني تركي، يكتب، على الأول إنما المؤمنون أخوة وعلى الوجه الثاني فأصلحوا بين أخويكم . ولا تحدّد حدود بين سورية وتركية إلا بعد جلاء العدو عن أراضيهما وحصولهما على الاستقلال التام. وأنّ المساعدة التركية إلى سورية هي إعانة أخ لأخيه لا لطمع أو مغنم، وتقدّم الحكومة التركية مدربين للثوار على أن يعود هؤلاء إلى تركية بعد تدريب السوريين». وبسبب حاجة الثورة للدعم قبل هنانو ببعض الشروط التي لاقت اعتراضاً من قادة ثورة الشمال.

فيما كانت تركيا تقصد من ذلك الاتفاق «ابتزاز فرنسا بخصوص ترسيم الحدود»، وهو ما حصلت عليه في «اتفاق لوزان» الذي أعطاها أراضي واسعة، وعندئذ أنهت دعمها للثوار، وبدأت تعمل على اقتطاع لواء اسكندرون، الذي ضمّته تركيا بالتواطؤ مع فرنسا.

والمتأمّل في تاريخ العثمانيين الأوائل، والجدد المتمثلين في أردوغان وحزبه العدالة والتنمية، وأنصاره الساعين لاستعادة مرجعية تاريخية تتمثل بإحياء الإمبراطورية العثمانية من جديد، يلاحظ تشابهاً كبيراً تظهر ملامحه بطبيعة الحكام أنفسهم.

توسيع دائرة الانتقام..

ومجازر الأرمن

في الداخل التركي تحديداً التاريخ يعيد نفسه، بين أردوغان وأسلافه، فعلى الرغم من مضي أكثر من ثلاثة أعوام على محاولة الانقلاب الفاشلة، فإن تبعاتها لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، من خلال حملة التطهير المستمرة ضد آلاف المنشقين والمعارضين، شملت اعتقال عشرات الآلاف من المعلمين والمحامين والطلاب والقضاة وغيرهم من المسؤولين، حتى باتت سجون ومرافق تركيا البالغ عددها 384 تعاني اكتظاظاً بالفعل، يفوق قدرتها الاستيعابية الرسمية.

والقارئ للتاريخ العثماني يمكنه أن يلحظ التشابه ذاته بين أردوغان وأسلافه بوضوح من خلال العديد من الحوادث الانتقامية، ومنها على سبيل المثال: «مجازر الأرمن» التي قام بها السلطان عبدالحميد الثاني، إذ اتهمت الدولة العثمانية الأرمن بمحاولة اغتيال السلطان عام 1905م، لتتم مواجهة الأرمن بسلسلة من المجازر، بالإضافة إلى عمليات التهجير الممنهجة بين عامي 1915-1917 حيث تمَّ التهجير والترحيل القسري للأرمن بطرق بدائية جداً فمات منهم عدد كبير، وفي ظروف قاسية لتؤدي إلى وفاة عشرات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ.

انعدام التوازن ونظرة متعالية

امتدت الهيمنة التركية لقرون طويلة، على المنطقة، فكانت نظرة الأتراك دائماً نظرة متعالية لسكان المنطقة، ومعاملتهم لهم تتخذ سلوك المحتل. فقد انتهج الأتراك طيلة فترة احتلالهم دول المنطقة سياسة تغيير الولاة، مع الحرص على جمع المال في المقام الأول، وتجاهل السياسات الإصلاحية، وبالتالي عزل العالم العربي عن المؤثرات الحضارية حتى أضحى متخلّفاً عن ركب الأمم.

والأمثلة أكثر من أن تُحصى، فعندما غزا العثمانيون بقيادة سليم، مصر، بمبررات الدفاع عن «الدين الإسلامي وحماية الشريعة»، فبحسب ما يقول المؤرخ المصري محمد بن إياس في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، «لم يقاسِ أهل مصر شدّة مثل هذه»، ووصل الأمر إلى وصفه أنه «وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو في بغداد».

كما أجمع المؤرخون على أن «احتلال العثمانيين تسبّب في أطول فترة اضمحلال في تاريخ مصر على مدى 300 عام، وفقدت خلاله مورداً اقتصادياً هائلاً، واقتصرت صلاتها التجارية على حوض البحر المتوسط والسودان وبلاد الحبشة والحجاز واليمن. وكان العثمانيون ينظرون إلى المصريين بنظرة تعالٍ، وقصروا الوظائف الإدارية على عنصرهم التركي نفسه وعنصر المماليك، فانحط المستوى الاجتماعي للشعب المصري، وشاع الاعتقاد بالسحر والخرافات، وقلّ ظهور العلماء».

الأردوغانية وخزان الغذاء

وانطلاقاً من هذا الموروث تطلّ علينا «الأردوغانية» كترجمة للعثمانية الجديدة بالأدوات ذاتها، وهو ما جسّدته في هجومها على عفرين، أو عملية «غصن الزيتون»، أو سابقتها «درع الفرات» على منبج واليوم «نبع السلام» بحجة إنشاء منطقة آمنة لاحتواء السوريين «اللاجئين» والفصل بين الأكراد السوريين والأتراك، إلا أن الأسباب الحقيقية هي بخلاف الأسباب المعلنة، وفي مقدمتها «المطامع الاقتصادية والتوسعية» التي طالما حركت العثمانيين الأوائل والجدد، وهي السيطرة على خزان الغذاء السوري، وإن أمكن جعل الأراضي السورية أراضي «حبيسة» لتروي ظمأ عطشها الاحتلالي لأراضينا متذرعة بمنع إقامة دولة كرديّة على الحدود التركية.

وبالرغم من العلاقات الاقتصادية مع كردستان العراق واعتماد اقتصاد تركيا على خطوط الأنابيب التي تمرّ في أراضيها، إلا أنّها ترفض كلياً إعطاء أكراد سورية فرصة إنشاء «كانتون» كردي يعرّض اقتصادها للخطر.

لأنّ هذا المنفذ النفطي مع كردستان العراق قد يُلغى ليصبح منفذاً مشتركاً مع «كانتون» كردي سوري، لاقت في السحب الأميركي للدعم الكردي فرصة ذهبية لتدخل الأراضي السورية محاولة كسب كل الأوراق بداية منع حصول هذا الكانتون ونهاية بتحقيق أطماعها بالتوغل في الأراضي السورية..

بالإضافة إلى إدراك أردوغان أن الوجود العسكري على الأرض هو الضامن الوحيد للفوز بنفوذ مؤثر في مستقبل سورية لذا فالتدخل العسكري من شأنه تعزيز المزيد من الحُضُور التُركي في مناطق سوريَّة أخرى، إلا أنّ آراء المحللين والخبراء التي تقول بأنّ السكوت عن هذا التوغل هو مقايضة بورقة «إدلب» التي تحتضن قوى المعارضة المُسلحة المُرتبطة بِتُركيا، وبالتالي رفع الدعم التركي عنهم مقابل هذا التوغل التركي!..

الكواليس الدولية

ولكن في الكواليس الدولية هناك سياسة الخطوة بخطوة وليس كل الأوراق دفعة واحدة، ومع صراخات عربية وغربية مندّدة لهذا الإجراء التركي الفاقد للشرعية الدولية، كأنما الأميركي أراد إقحام تركيا بـ»المستنقع» السوري، وجعلها إحدى أدواتها، وكما استغل سابقاً أحلام بعض الأكراد «الانفصالية» فإنه اليوم يستغل أحلام تركيا التوسعية ليدخل العمق السوري بعد أن كان في الأطراف..

أما الموقف الروسي وحلفاؤه فيبدو واضحاً باعتماده على سيادة القانون وتعويله على صرخات عربية وغربية رافضة للإجراء التركي، معتبرة أنه احتلال بكل ما للكلمة من معنى، فنجده يعوّل على هذه الاتهامات ريثما يتم تحرير إدلب وإطلاق يد القانون الدولي والشرعة الدولية، لإعادة تركيا إلى مكانها بحدودها التي استحصلت عليها في أعقاب الحرب العالمية الأولى ووضع حدّ وكبح طموحها التوسعيّ بعد أن تجد نفسها مجرّد أداة بيد حليفها الأميركي..

وبالرغم من المساعي الأردوغانية إلى الظهور بالمظهر المتوازن بين مكتسبات الدولة الأتاتوركية الحديثة والإمبراطورية العثمانية، فإن ملامح هذه التوليفة يطغى عليها الإرث القديم إذ يجمع العثمانيون القدماء والجدد الرغبة في الانتقام، واتباع سياسة الانتقام الممنهج. وكثيراً ما يفتعلون المعارك والحروب كأداة من أدواتهم للوصول للمكاسب السياسية.

هوس المعارك ودعم فلسطيني زائف

ومنذ بداية «الدولة» العثمانية، دأبت على انتهاج سياسة المعارك والحروب، حتى في حال استقرارها وضعف الخطر المحدق بها، لأهداف توسعية واستعمارية، ومكاسب سياسية. وقد تكون الظروف اليوم مختلفة عن الأمس للدخول في حروب عسكرية مباشرة، إلا أن افتعال المعارك والدخول في صراعات متعددة، مع أطراف مختلفة بعضهم حلفاء اليوم أو الغد، ما تزال سمة ظاهرة في التعامل التركي الأردوغاني، ويتجلى ذلك على سبيل المثال في علاقته بـ»إسرائيل»، فعلى الرغم من الخطاب الانفعالي وبعض التوترات في العلاقة، فإن الحقائق على الأرض تظهر عكس ذلك، فدائماً ما كان أردوغان الحليف الأقوى سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، لـ»إسرائيل» في المنطقة.

فالعلاقات التركية «الإسرائيلية» التي انطلقت عام 1949م، لم تتأثر بتولي حكومة العدالة والتنمية مقاليد الحكم في تركيا عام 2002، على الرغم من الخطاب العاطفي الذي يحمله الحزب ورموزه تجاه القضية الفلسطينية، بينما يعمل الحزب على تعزيز الاتفاقيات السابقة مع «إسرائيل»، غير آبهٍ بتناقض خطابه الذي يظهر حماسه للقضية الفلسطينية، ويبطن تعزيزاً للتجارة والعلاقات العسكرية مع الكيان الصهيوني. ولم يقتصر تعاون أردوغان مع الاحتلال «الإسرائيلي» على الاتفاقيات السابقة لينقل العلاقة مع تل أبيب إلى مرحلة «الاستراتيجية»، فحتى مسرحية أردوغان بانسحابه من قمة دافوس في عام 2009، والتراشق اللفظي بين أردوغان ونتنياهو في 2017 على خلفية وصف أردوغان «إسرائيل» بدولة إرهابية تقتل الأطفال، لم يؤثر يوماً على الاتفاقيات العسكرية بين البلدين، والتي تجعل من «إسرائيل» المورد الأول للأسلحة بالنسبة لتركيا.

تركيا بانتظار «طوفان نوح»!

في هذه الأثناء وبعد التوغلات التركية المتتالية ضمن الأراضي السورية بحجة حماية الأمن القومي التركي من الأكراد أو إنشاء «كانتون»، كردي يؤجج العصبية الكردية لدى أكراد تركيا، نجد النظام التركي يستنفر هذه الأيام كثيراً وصولاً إلى رفع «حالة الطوارئ» إلى أقصاها بين أوساطه الاستخبارية والعسكرية، بعد تكرار العمليات الأمنية والميدانية التي نفّذتها دمشق من أقصى الشمال الحلبي إلى إدلب ودير الزور وريف اللاذقية، وصولاً إلى ريف حمص الشرقي وريف دمشق الجنوبي والقنيطرة وحماة. فالحرب، انتقلت من السباق الأمني إلى الاشتباك العسكري، والأسرع هو مَن سيحصل على النصر، وسيرفع راية انتصاره في وجه الخاسر والمهزوم.

وتركيا تعي الآن أنها وصلت مع دمشق إلى عدم العودة، وأيقنت جيّداً أن دمشق انتقلت من مرحلة «المدافع» إلى مرحلة الهجوم، مع تفعيل «العنصر الأمني» وإخراج أوراق اللعب «الأصلية» من دروجها المغلقة بإحكام منذ بدء الأزمة في هذا البلد.

فالأجهزة الأمنية السورية وطيلة الفترة السابقة كانت بصدد تجميع المعلومات والعمل على تراكمها بعد قراءة متأنّية جداً، وربطها مع معلومات أخرى «خارجية أو داخلية» عن تحرّك الاستخبارات الأجنبية في الداخل السوري.

الجميع بات على أهبّة الاستعداد للمرحلة الأخيرة، فإما الجميع يرمي بأوراقه على الطاولة ويبدأ اللعب «مكشوفاً»، أو تنتقل المعارك من الأراضي السورية إلى العمق التركي..

في الوقت الذي نقلت فيه أنقرة مجهودها العسكري إلى داخل سورية، ما يُعيدنا بالذاكرة إلى التسعينيات، عندما حشدت تركيا حينها قواتها العسكرية على الحدود منذرة آنذاك بحرب عسكرية مع سورية، إلا أن للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، كان كلام آخر، عندما أمر القوات العسكرية السورية المنتشرة على حدود البلدين بالانسحاب إلى العمق السوري، ما أثار حينها حفيظة الروس بعد الاستغراب مما قام به الراحل، ليفهموا لاحقاً ما كان يجول في ذهن الرئيس الأسد، عندما استبدل القوات العسكرية بمنصات صواريخ هدفها ضرب السدود التركية، بهدف إغراق «الحشد التركي» على الحدود ومعظم تركيا، من دون أن يحتاج إلى رمي رصاصة واحدة من بندقية جندي سوري ليقتل بها أو يجرح جندي تركي ضمن عملية سمّاها حينذاك بـ»نوح 2».

والذاكرة مفيدة بأنها تُعيد الصواب إن احترفنا استعادتها وكنّا أذكياء، والمطلوب من أردوغان اليوم أن يعود بذاكرته قليلاً إلى الخلف ليرى أن بإمكان سورية اليوم أن تنفّذ تهديد الراحل الأسد وتُغرق تركيا بمن فيها، كيف لا ونحن نفهم ونعرف أن سورية اليوم لن تفكر بالعودة إلى الوراء «لحظة واحدة». فسورية اليوم منتصرة وليست سورية 2011 التي أراد العالم أجمع تصفية حساباته على أراضيها.

فيما تعيش تركيا على جمر مخفيّ بالرماد، ونظام أردوغان الذي رأى بأمّ عينه مفاعيل العمل السوري على الأرض، يعيش حالة من «الجنون»، خاصة أن «ميليشياته» التي بدأ، بتشكيلها مع بداية الأزمة السورية بدأت تتهاوى أمامه مجموعة تلوَ الأخرى، وجاسوس عقب آخر، كل ذلك أنهى «الأحلام» التي دفع عليها ملايين الدولارات وأكثر لتأسيسها، لتظهر فيما بعد مكشوفةً كـ»كف اليد» أمام الأمن والجيش السوري الذي لم يوفر جهداً في القضاء عليها بلمح البصر.

كذلك بالنسبة للدول الداعمة للإرهاب في سورية، يعني وصول اللعبة إلى نهاياتها، أي أنهم تأكّدوا بأن أوراقهم المكدسة في أدراج مكاتبهم، كلها باتت بحكم المحروقة، وأن عليهم الانتقال من اللعب تحت الطاولة إلى فوقها، أي إعلان «الحرب العسكرية» على سورية ولتكن بأشكال عدة، أهمها «التدخل البري في الأراضي السورية بحجة محاربة الأكراد»، فالتوغل العسكري التركي يشي بأن «طبول الجنون» لدى أردوغان قد «ثُقبت»، وبات العزف عليها ضجيجاً لا يُطرب إلا «المجانين».

إذاً، تركيا كسرت المحظور وبدأت بالعمل «العسكري»، فمعركة «نبع السلام» ليست الأولى من نوعها، وأن صبر دمشق لا يعني «الصمت»، وبالتالي على النظام التركي أن يجهّز لقواته «سفينة نوح» علّه ينجح بإجلائهم من طوفان «نوح 2» الذي وعد به الرئيس الراحل حافظ الأسد ولم ينفّذه.. تاركاً الخيار مفتوحاً أمام الرئيس بشار الأسد لينتقي بدقة اللحظة المناسبة في حال قرّرت تركيا، أن تُعيد التاريخ نفسه..

وإذا ما أرادت أنقاذ نفسها فعليها أن تعود إلى المفاعيل القانونية لاتفاقية أضنة 1998 وترضى بها كآخر ورقة للنجاة. فسورية اليوم ليست سورية 2011 والانتصار عنوانها وسيادتها ستبسطها على كامل أراضيها وليس لها في خبزنا من طعام..

وفي العودة إلى المعاهدات المذلة التي تمّت بإيعاز من دول احتلال لمنطقتنا، لنا في الصين خير مثال على إعادة ما سلخ من أرضها، حينما أعادت الجمهورية الشعبية الصينية ما سلخته منها الإمبراطورية البريطانية بغير وجه حق، وكذلك استعادت جزيرة ماكاو من الاحتلال البرتغالي بعد 700 عام احتلال، بعد أن اضطرت الحامية البرتغالية للانسحاب من الجزيرة. والحق لا بدّ أن يعود لأصحابه مهما طال الزمان..

ويمكن لكل قارئ يرغب الاستزادة، فيدقق ليجد المزيد من البراهين على قضية الأقاليم الشمالية السورية التي اعتصبتها تركيا.. هنا غيض من فيض المصادر والمراجع في قضية الأقاليم السورية المحتلة:

نصوص اتفاقيات سايكس بيكو، معاهدة أنقرة، لوزان، سيفر، أضنة..

شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية، 2013. أربعة وسبعون عاماً على جريمة سلخ لواء اسكندرون ولا يـــزال خالداً في عقول السوريين ووجدانهم كأرض محـــتلة ســـتعود مهما طال الزمن.

الشريف الإدريسي. نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. المجلد الثاني. الجزء السادس من الإقليم الرابع. دار عالم الكتب.

جريدة الوطن، 2014. دعوة لإلغاء جميع القوانين والاتفاقيات التي عقدها المستعمر الفرنسي باسم بلادنا…

حجار، جوزيف. 1999. سورية بلاد الشام: تجزئة وطن. دار طلاس.

خميس، حنان. 2005. سوريا الكبرى. دنيا الرأي.

الدولة العثمانية: قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، قيس جواد العزاوي، الدار العربية للعلوم، طبعة ثانية، بيروت 2003.

بازيلي، قسطنطين. 1989. سورية وفلسطين تحت الحكم العثماني. دار التقدم، موسكو.

كندال، الأكراد في ظل الدولة العثمانية. دراسة فتح.

بيان أول وزارة وطنية دستورية في سورية 1920.

مذكرات الشيخ يوسف السعدون.

مذكرات جميل إبراهيم باشا، 1958. نضال الأحرار في سبيل الاستقلال، مطبعة الضاد، حلب.

عطوي، معمر. 2008. الإسكندرون جامع «الأمجاد» ورابط الشرق بالغرب.

إعلان الرئيس الراحل حافظ الأسد عن عملية «نوح 2».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى