الحوارات النقديّة وتأصيل النوع

د. باسل بديع الزين

أتاح لنا التّجوّل في نتاجات الفكر النّقديّ الأدبيّ الغربيّ، وتحديدًا الفكر النّقديّ الفرنسيّ، فرصة الاطّلاع على أمّهات النّصوص التّفكريّة، والمقاربات التّجديديّة. كما أتاح لنا فرصة التّعرّف إلى المناقشات المفهوميّة والحوارات التّسآليّة في ضرب من التثاقف الجميل والتّحاور العميق والتّبادل الأنيق. هذه المدارس النقديّة الغربيّة تنهض بمفاهيمها وتسمق بمبانيها وتسترشد بنقّادها وتتطوّر بفعل المراس والحجاج. ولنا أن نذكر في هذا السّياق، انبلاج فجر المدرسة البنيويّة وولادة التفكيكيّة وتحوّلات رولان بارت وفضاءات موريس بلانشو وحوارات جان بول سارتر وآفاق كافكا وطفرات جورج أورويل وعدميّة بيكيت، إلخ.

الحقّ يُقال، تأسرنا الدهشة ويأخذ منّا العجب أيّ مأخذ ونحن نرى إلى تنامي الحركة الفكريّة في مناخ أدبيّ يحكمه الإبداع وتقلقه منارات البحث وتقضّ مضجعه سبل التّجديد. عند هذا الحدّ، لا نملك إلّا أن نرثي للحال التي وصلنا إليها في بلادنا.

وبعد، يدّعي الأدب الوجيز أنّه يؤسّس لمذهب أدبيّ جديد، مذهب يقوم على جملة تصوّرات نظريّة ومداميك مفهوميّة وإرهاصات تاريخيّة. وفي هذا الصّدد، لم يَنِ كتّابه وشعراؤه ومنظّروه يحشدون آلياتهم المفهوميّة وعدّتهم التّنظيريّة وأعمالهم التّطبيقيّة في سبيل تشييد بناء فكريّ أدبيّ متماسك ومتجانس، تحكمه لبنة التأصيل وتؤطّره مبادئ تأمليّة أفرزتها الضرورات الاجتماعيّة وحال الرّكود والاستتباب في السّائد. ومع ذلك، لم يُرِد هذا الملتقى لمشروعه أن يُطلَق على عواهنه بل راح يدعو إلى أمسيات حواريّة ناشطة وفاعلة، بعد أن خصّص عامًا ونصف العام لتنظيم الأمسيات الشعريّة والقصة الوجيزة. فكيف قُوبِل هذا التّوجّه؟

حقيقة الأمر، أنّ هناك كوكبة من الأسماء التي ما زالت تؤمن بحيويّة التّجديد والحوار الفكريّ الفاعل، كوكبة راحت تناقش المبادئ التي يقوم عليها هذا المذهب الأدبي الجديد، مفصّلة القول في نقاط الالتباس، محكّمة تصوّراتها بين تأييد ورفض، بحيث أتى الحوار فاعلًا وهامًّا وتأسيسيًا يشحذ عزيمتنا ويشدّ من إزرنا.

على المقلب الآخر، برزت مجموعة مناهضة وغير قارئة، مجموعة ديدنها الرفض إمّا حرصًا على مكتسباتها وإمّا خوفًا من العمق، إذ من شأن الطروحات النقدية للأدب الوجيز أن تفضح سطحيتها أو تأتي على جماهيريّتها. لكنّ الطامة الكبرى التي التمسناها تكمن في الجمود الفكريّ قبل الجمود الشّعريّ، إذ بلغت الذائقة العامّة مبلغًا لم تعد قادرة معه على سماع الحوارات النقديّة، فراحت تنعتها بالمملّة، مُعربة عن رغبتها في سماع قصائد تطرب لها الآذان وتنثال عليها الإيقاعات الغثّة. إنّها الرغبة في التّصفيق، وتحويل الأمسيات الحوارية إلى أماسٍ للسهر والتندّر.

في هذا السياق، نُشدّد في معرض تأصيل النّوع على جملة أمور نوجزها في ما يلي:

أوّلًا: الأدب الوجيز أدب نخبويّ. ويجب ألا يُفهم، في هذا السياق، أنّ الأدب الوجيز يتعالى. الأدب الوجيز يُنادي بالتعالي لكنّه لا يتعالى، إذ يؤمن مؤسّسوه بأنّ المتلقي صنو الكاتب، والارتقاء بالشّعر إلى مصاف التّخيّل المحض والابتكار الصّرف من شأنه أن ينهض بالمجتمع الذي يُعاني وطأة التسطيح إلى جانب ما يُعانيه من الجهل والتّخلّف والرجعيّة. وبعبارة أخرى، المشكلة لا تكمن في المتلقي بقدر ما تكمن في ما يُقدَّم له. ونحن نرى أنّه من واجبنا في هذه المرحلة التي بلغت فيها مجتمعاتنا تحتًا ليس تحته تحتٌ أن ننافح عن المبادئ الفكريّة الرفيعة، وأن نعيد إحياء الحركة النقدية الفاعلة التي مثّلتها أسماء رفيعة حال الجاحظ والجرجاني وطه حسين والعقّاد ومارون عبّود وخليل حاوي وغيرهم.

ثانيًا: تأصيل النوع هو تكريس صريح لنوع أدبيّ جديد بالتمام قوامه شعر الومضة والقصة الوجيزة. بتعبير آخر، يبحث الأدب الوجيز اليوم في مسائل تأصيلية ترتكز على دور المخيّلة في افتضاض مضامين جديدة بالتمام، ذلك أنّ تاريخ الشعر العربيّ لم يحفل إلا في ما ندر بجملة تحوّلات مضمونيّة ظلّت شهودَ زور على مراحل شعريّة اجترّت فيها التجارب عينها شكلًا ومضمونًا. وعليه، إنّ الشّكل الجديد الذي يطرحه شعر الومضة، مثالًا لا حصرًا، هو دعوة محكمة إلى افتضاض أبعاد مضمونيّة جديدة، وما الشّكل سوى السبيل الأنجع لتشذيب الحشو الذي لازم ولمّا يزل يُلازم القصائد الطويلة والسرديّات الأنيقة.

ثالثًا: يرى منظّرو الأدب الوجيز أنّ تحقيق هذه الغاية منوط بتدبّر رصين لدور المخيّلة في رصد المسكوت عنه وكشف المحتجب وإعادة تمكين العلاقات من خلال المغايرة فضلًا عن رصد سبل تحوّلات اللغة الكشفيّة ومحاولة الإتيان بلغة جديدة تروم الدهشة في تجلّيها الأوّل وانكشافها البدئيّ.

بوجيز العبارة، يحتاج العمل الأدبيّ اليوم حركة فاعلة ومتلقين منتجين لا يقضّ مضجعهم حوارٌ أو يؤرّق منامهم تأمّلٌ، وذلكم لعمرنا أمر متاح في ظلّ وجود كوكبة من النقاد والأكاديميين حملوا لواء التجديد، وراحوا يذودون عنه في بقاع المشرق العربي والمغرب العربيّ، شاهدنا في ذلك المؤتمر الذي عقده ملتقى الأدب الوجيز في بيروت بمشاركة ثماني دول عربيّة، فضلًا عن مجلّة الأدب الوجيز التي سيبصر عددها الأوّل النور في منتصف شهر كانون الثاني من العام 2020.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى