من «أنقرة» شمالاً… إلى «الرقة» جنوباً؟

فاديا مطر

لم يعد الشكل الجديد من الخرق التركي لشمال شرق سورية خافياً بنواياه على أحد، وهو شكل احتلالي يشكل برمّته المستنقع الأخير لدور أنقرة في المنطقة على ضفاف جفاف مشروعها، فما بين الخرق التركي الساعي لأهداف اقتصادية، تكمن الكثير من الأهداف السياسية التي تحاول تركيا استتبابها عبر التغيير الديموغرافي للمنطقة بحجة النازحين السوريين، وتعويم جماعاتها الإرهابية في إدلب كما فعلت سابقاً واشنطن بتنظيم «قسد» الإرهابي وقضية تنظيم «داعش»، لتكون مراكمة الأوراق التركية التي جنتها أنقرة بحربها على سورية هي الأجندة الداخلية والخارجية لمشروع أردوغان الجيوسياسي في جعل مكانته متوسطة بين شراكته الأطلسية مع المعسكر الغربي وسوتشي الروسي الذي يقف على شفا الإنهيار، وهو ما فضح المشروع الترك غربي في قلبه الذي حوى بعض العودة بما بقي من أوراق عام 2011 الى واجهة استراتيجية المرحلة الحالية باستهداف المنطقة النفطية والغذائية والاستراتيجية بحدودها «الثلاثية» عبر تدمير ممنهج لمحطة السعيدة التابعة لمحطة الرميلان النفطية وضرب سدّ الرميلان وخطوط النقل في منطقة علوج وقطع طريق رأس العين وتل أبيض لمسافة 150 كلم بالدبابات، ودخول الطيران التركي بالمعادلة العسكرية والسيطرة على منطقة بئر عاشق لقطع الطريق على ميلشيات «قسد»، وضرب اللواء 93 الكردي في مواقعه لمنع تثبيت مركز سيطرة وإستطلاع يدعم تثبيت المليشيات الكردية…

البعد العسكري والسياسي أبعد من «منطقة آمنة» تركية بحجة «الأمن القومي»، والسعي العسكري الحاصل يشمل القرى الحدودية التي تدعم تواجداً تعويضياً عن قوات واشنطن في تلك المنطقة بعيداً عن التصريحات السياسية الصادرة والاجتماعات المتعدّدة النوايا، وفي المقابل فإنّ 9 تشرين الأول الحالي هو جدول زمني فتح صفحته الرئيس الأميركي ترامب بضوء أخضر لأنقرة يمتدّ حتى زيارة أردوغان للبيت الأبيض في 13 تشرين الثاني المقبل، وهي المدة التي تفرغ فيها واشنطن أوراق مليشيات «قسد» وتملأها بسلة العثمانيين الذين يبحثون عن أوراق داخلية تثبت بعض انفكاكات حزب العدالة والتنمية على حبل إفلات «داعش» من سجون تحرسها «قسد» وتخرج منها واشنطن القادة القتلة الغربيّي الجنسية الى مناطق عراقية تعتبرها واشنطن تحت سيطرتها الأمنية والعسكرية، وما بين ملف آخر ينضمّ للموقف الأميركي الضبابي حتى الآن في اعتبار واشنطن الكرد امتداداً لقناة الإسلام الراديكالي، وإمكانية تصادم المعسكرين الوهابي والأخواني وهو ما يفسّر محاولة بعض خلايا داعش السيطرة على قرية «التويمية»، فالتغليف الأميركي لعملية أنقرة العسكرية دعمته تصريحات سياسية من أعلى المستويات في اعتبار أنّ الكرد يتقاتلون مع بعضهم منذ 200 سنة ولم يكونوا شركاء معسكر واشنطن في الحرب العالمية الثانية وفي معركة النورماندي، وهو تصريح صريح لخرق تركي لإتفاق أضنة في العام 1998 والذي فكت حبكته أنقرة عبر قطبة أمن الحدود المشتركة السورية التركية، وما أدخلته تركيا من إرهابيين عبر الحدود في بداية العام 2011، فالدخول التركي لمناطق جعلت ما يسمّى «المنطقة الآمنة» شريعة الاعتداء في التوغل لمناطق في شرق نهر الجلاب في ريف الرقة يكتب غايات متعدّدة من العسكرة التركية تتعدّى ما اتفق عليه مع واشنطن بالطول والعرض، ويحاول تغيير ما سطرته الدولة السورية بعد معركة حلب واللجنة الدستورية التي خرجت منها تنظيم «قسد» برعاية أميركية…

فالدولة السورية التي أوقفت قلب العالم عند الدخول إلى خان شيخون واللطامنة التي تلعب دوراً تركياً في استهداف الجيش السوري، والوصول الى طريق حلب إدلب في آب المنصرم قالت كلمتها في مستوياتها السياسية والعسكرية كافة باعتبار الخرق التركي هو خرق سيادي لأرض سورية توسعت مفاعيلها في كلّ من موسكو وطهران شركاء سوتشي مع أنقرة، وهو ما يجعل الخطوط الحمراء الملتهبة تنتقل لضفة تقابل ضفة واشنطن التي اعتبر رئيسها ترامب أنّ الخيارات مفتوحة على احتمالات ثلاثة إما تعزيز «قسد» أو عقوبات اقتصادية على تركيا أو مهادنة بين «قسد» وأنقرة تطفئ النيران، وهو كلام سبق أن أعلنته واشنطن وعملت عليه في سياق إتفاق «منبج» وعادت بموافقة «قسدية» ما لبثت أن تخطتها عمليات تركيا الاعتدائية، فالمشهد الحالي هو خلط لأوراق المنطقة المنقسمة أصلاً بين معسكر يزاحم إخوانية قطر وأنقرة، ويحاول إعادة إعتبار خساراته في اليمن بعدو تركي يسعى لمنطقة «حكم ذاتي» هي بالأساس تعادي دمشق من بوابة روسيا وإيران اللتين حاولتا إعادة ميليشيات «قسد» للدخول من بوابات دمشق بعيداً عن المساومة في الثوابت السورية التي لا تحمل منها مكوّنات «قسد» شيئاً، فالهدف الأردوغاني بات معلوم الجهة والغاية، والحراك الدولي لحلفاء سورية يمتدّ لردع تصادم عسكري في منطقة حملت تقاطعات سياسية وعسكرية إقليمية ودولية ملتهبة، وإعادة تدوير أوراق تركيا «النصراوية» لن تجعل صراع المتضامنين قيد عملية محدودة سورية، وما عقلية المعسكر «الكانتوني» الأميركي إلا كذبة أميركية يستغلها ترامب في سياق داخلي يرتب بعض أوراقه المتناثرة ما بين بيع معسكرات الحرب على اليمن ومعسكرات ما اعتبره إسلاماً راديكالياً في الشرق الفراتي التي خدمت فترة زمنية كانت تحتاجها واشنطن وتركتها لترتيب أولويات أكثر أهمية في المعادلة الإستراتيجية التي تقبل فيها واشنطن أدنى أوراق ناتجة عن فرط عقد القسديين أو الأتراك في مستنقعات المنطقة، فدمشق التي أسقطت تنظيم «قسد» من بنائها السياسي المستقبلي تنظر بدقة لمراكمة دراماتيكية لأوراق إقليمية وتضع محذراتها قيد التفعيل العسكري في أيّ محاولة لجعل نقل جبهة إدلب بملفات ما كانت تتحدّث عنه أنقرة من شريط كردي يمتدّ من كردستان الى المتوسط والمقايضة بتواجد إيراني مقابل تواجد أميركي يضمن أمن تل أبيب في مصبّ جبهة أخرى قد تستدعي تدخل حلفاء دمشق العسكريين والسياسيين، وتقود معركة ربما تأمل منها واشنطن نقل الإشتعال من حرب المضائق وما خسره حلفاؤها في عمقهم الاستراتيجي الذي تبيعه واشنطن مرات متعدّدة في ذات بازار المنطقة إلى منطقة تبتعد فيها قوات واشنطن مسافة آمنة داخل الغراق، فما سيتقدّم من خيارات تشغل منصبه الاعتداءات التركية المفتعلة والمرتبطة من أنقرة شمالاً الى الرقة جنوباً وما حوته سابقاً من أجندات خسارة الحلف العدائي فيها أكبر من يستردها في أيّ عمل مقبل، فهل الآتي يبرهن تراجعاً تركياً؟ أم تقدّم المستوى العسكري على السياسي في سوتشي ناري جديد؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى