واستفاق المارد فاهتزّ «الطائف» وأهله..

روزانا رمّال

هي اللحظة التي كان يظن الجميع «كلن يعني كلن» أنها لن تأتي أبداً. هي اللحظة التي نكتب عنها اليوم دون أن نصدق أنها دخلت تاريخ ما بعد الطائف. هي اللحظة التي انتفض فيها الشباب اللبناني بكل ألوانه على زعماء الطوائف، أولئك الذين يشعرون اليوم بذعر غير مسبوق ممن كانوا يؤيدونهم يوماً «بالروح بالدم».. عبارة طارت وصارت من الماضي.

استفاق المارد المقهور الذي صمت كثيراً، قبل اسبوع او اسبوعين كان أغلب الظن أن أحداً لن يحرك هذا الشعب حيال مطالبه. فلقد اعتاد اللبنانيون على خط أحمر تبدأ معالمه عند عتبة الطائفة وزعيمها اليوم يعلو الصوت حتى آخر نفس لا نصدقك أيّها الزعيم..

مختلف الأحزاب السياسية تعيش اليوم قلقاً مما يمكن أن تحمله الأيام المقبلة، لكن التطوّر الجديد في بعض الساحات يؤكد أن هناك مرحلة جديدة تتعلق بإدارة الحياة السياسية ككل، وبثوابت لم يكن ممكناً تخطّيها. فعلى الساحة الشيعية مثلاً تمّت مهاجمة بيوت ومكاتب لرموز احزاب السلطة الأساسية في مناطق تعتبر أبعد عن ظروف المظاهرات التي غالباً ما تتمركز في العاصة مثل النبطية وبنت جبيل وغيرها، حيث تمّ تحطيم مراكز لنواب حركة امل وحزب الله بينهم مكتب رئيس كتلة الوفاء للمقاومة محمد رعد والنائب حسن فضل الله والنواب هاني قبيسي وعلي بزي عن حركة أمل وياسين جابر من كتلة التنمية والتحرير. هذا الذي يحصل في الجنوب اللبناني مشهد ليس عابراً في تاريخ دراسة المتغيرات التي كانت قد أسست لقلق كبير ما قبل الانتخابات النيابية الأخيرة، الاعتراض على سياسات حزب الله والرئيس بري هو لا شك تحوّل كبير في الشارع الجنوبيّ الذي لم يتخلَّ عن تأييده للمقاومة، كما يقول المحتجون، إلا أنه لم يعُد مستعداً أبداً لتغطية سياسات يعتبرها فاشلة ولم تثبت أي إيجابية. وهذا تحت طائلة التهديد بعدم التصويت اليهم مجدداً. وهذا بيت القصيد.

العودة الى مرحلة الانتخابات الأخيرة في أيار الماضي مفصل أساسي كان يُعتبر اختباراً كبيراً لهذه الأحزاب الكبرى التي لم تحصل على نتائج مرضية وجميعها تضرّر، والأرقام تحدثت عن تغييرات لافتة. ومنذ ذلك الحين شعر رؤساء الأحزاب أن لا مظلة فوق رأس أحد بعد اليوم. وبدأ حزب الله بخطاب يعد فيه بالإصلاح وبدء المعركة المنتظرة ومعه تيار المستقبل الذي أجرى سلسلة إصلاحات وتغييرات داخل تياره بعد صدور النتائج فوراً، وقامت حركة أمل بمراجعة حثيثة للنتائج التي سجلت انخفاضاً في مستوى المقترعين لها وكذلك الامر بالنسبة للحزب التقدمي الاشتراكي الذي خسر ما يكفي من المقاعد ليتقلّص حضوره النيابي.

مرحلة ما بعد الطائف التي كانت تعتبر التوزيع الطائفي والمحاصصة كفيلة بحماية الأحزاب وزعمائها بدأت اليوم بأولى مؤشرات التحلل. انها المرة الاولى التي لا ينتفض فيها الشارع المقابل لإهانة زعيمه او حرق صوره. الكل يشعر بحذر وربما خوف الخوف مشروع هنا. فالمعترضون من البيئة نفسها والعنوان السياسي والاستراتيجي نفسه حتى.. ماذا يجري؟

استفاق المارد الذي كشّر عن أنيابه لشدّة ما تحمّل من القهر المعيشي رافضاً أن ينضم إليه أي سياسي حالي أو سابق، مؤيد او معارض. استفاق المارد الذي اعلن استعداده لتقديم الأرواح من اجل ان لا يدنس ثورته اي من أزلام السلطة ومحاسيبها او اي متسلق عبر الشباب الثائر لتصفية حسابات السياسة وأهلها. يقول وليد جنبلاط في حديث مسائي يبدو ان الناس لم تتقبّلنا. وهو الذي دعا نهاراً حزبه الى المشاركة بالتظاهرات، أحد نواب الكتائب هو الآخر تمّ رفض حضوره في ساحة التظاهر، وبين هذا وذاك زفت طرابلس أولى شهداء الحراك أو الثورة أو الاستفاقة المباغتة تلك…

انتهى وقت المقدّسات. وبدأ زمن آخر، لكن المؤذي أن هذا القهر ولد عنفاً أتى على بنى تحتية ومحال تجارية وارزاق الناس ومعها قطع طرقات وحرق اطارات على مدار الساعة. ومع ذلك يقول بعض لا بأس.. فلا ثورة بدون عنف.. لن يسمعوا صوتنا بدون أن نؤذيهم.. لزوم الثورة اذاً..؟

لزوم الثورة تجعل استفاقة المارد خطيرة وتؤشر الى امكانية تدهور الأمور أكثر.. رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري خاطب المتظاهرين بدون أن يعطوا آذان لكلامه.. يطالبون بإسقاط الحكومة ومنهم مَن يطلب إسقاط العهد أي رئيس الجمهورية.. استفاق المارد «المرعب».. لقد أرعب أهل السلطة جميعاً، والكل يدرس كيف يمكن ترويضه، وربما هذا لم يعُد متاحاً من دون حلول جذرية..

وفي السياسة أسئلة لا يمكن التغافل عنها.. تتعلق بالفلك الذي يحيط بلبنان وظروفه.. أسئلة عن نيات للدس بالحراك لغايات بينها قطع طريق التقارب مع سورية، تلك التي لم يمانع سعد الحريري وزير خارجيته جبران باسيل أن يزورها.. أسئلة حول المجتمع الدولي وللمجتمع الدولي الذي تأخر في مد لبنان بالهبات وما يُعرف بمؤتمر سيدر..اسئلة بحجم امكانية ان تتحمل اوروبا أعباء نزوح النازحين السوريين من لبنان الى شواطئها اذا تفلت المشهد اكثر.. اسئلة حول إمكانية تغيير صيغة الحكم وما يعرف بالتسوية الرئاسية وفصلها من جديد عن حلول بالمنطقة.. اسئلة حول امكانية ان يكون الحراك في لبنان تتمة لذلك الذي عايشه العراق على اساس ان فيه نفوذاً إيرانياً.. اسئلة حول امكانية ان يسيطر حزب الله على المشهد كأقوى فصيل سياسي محلي مع حلفائه..

الاكيد ان المارد استفاق وانقلب.. انقلب على كل ما اعتاد على التعايش وإياه.. على الفقر والتسلط والقهر وعلى الزعيم والطائف وكل ما صنف «مُحرّماً» في يوم من الأيام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى