استقالة الحكومة: الحراك للانتصار أم للانتحار؟

ناصر قنديل

– استقال الرئيس سعد الحريري وتحقق للحراك المطلب الرئيسي الذي افترض كثيرون أنه سيكون بابا للحلول، بالتمهيد لولادة حكومة جديدة، أسموها حكومة إنقاذ. فهل نحن نقترب من فجر الخلاص ولو باستعادة قدر من الاستقرار في منطقة وسط يمكن أن يلتقي فيها الأطراف الثلاثية الذين يصنعون المشهد اليوم، شارع الحراك والشارع الموازي الغاضب الآخذ بالتبلور بمعزل عن دعوات الترحيب والإدانة، والقوى السياسية الكبرى الممسكة بالسلطة على اختلافها وتنوّعها وتفاهماتها وخصوماتها؟

– العقدة الأولى ستكون تسمية رئيس جديد للحكومة، مع استعصاء وجود اسم يولد من رحم الحراك يلبي شعار الحراك الذي تختصره معادلة كلن يعني كلن . وقد صار الحراك أسير شعارات لم تولد مع يومه الأول مع الانتفاضة الشعبية ومشهدها الرائع وطنياً، والآفاق التي فتحتها لتغيير جدي حقيقي ناضج في الحياة السياسية وقدرتها على فرض إصلاحات اقتصادية ومالية جذرية، كنا نسمع خلالها مطالب الناس المتصلة بشجاعة بمحاكمة الفاسدين، واسترداد المال المنهوب، وإحياء وتزخيم القروض السكنية، وضمان الشيخوخة، وفتح باب النقاش بقانون الانتخابات النيابية نحو الدائرة الواحدة والنسبية خارج القيد الطائفي، حتى جاء يوم الإثنين، عندما نجحت الانتفاضة بفرض الإصغاء على الحكومة وانتزاع مطلب عدم فرض أي ضرائب ورسوم جديدة في موازنة 2020، ومجموعة من الوعود التي من حق الناس عدم الثقة بتحقيقها وفرض الرقابة والضغط لتحويلها من أقوال إلى أفعال وإذ بالشعارات تتبدّل ونبرة الحراك تتغيّر، فخرجت عملية تسييس واضحة رسمت خطة للانتفاضة نجحت بتسويقها عبر ماكينة إعلامية عملاقة، وصارت تتردّد على ألسنة المتظاهرين حتى صارت هي خريطة طريق الحراك، وعنوانها ركيزتان، الأولى حكومة إنقاذ وطني من خارج الطبقة السياسية الفاسدة ، والثانية قطع الطرقات تحت شعار الضغط لفرض استقالة الحكومة، ومجيء الحكومة الإنقاذية.

– في الظاهر كان يبدو السعي منطقياً. وهذا دليل أنه مدروس، خصوصاً أنه في الواقع مفخّخ، يحمل بذور القضاء على الحراك، الذي كان إنقاذه فرصة للبنان لدخول مرحلة جديدة من الحياة السياسية والخطط المالية والاقتصادية. فشعار حكومة الإنقاذ من غير السياسيين، متلازم مع استقالة الحكومة، لأن الاستقالة بلا بديل متفق عليه بين القوى الأساسية في الحكم والحراك سيعني فراغاً يبقي الحكومة المطلوبة استقالتها حكومة تصريف أعمال لشهور. وهذا ما يحدث الآن، ففي لبنان أسهل شيء هو استقالة الحكومة وأصعب شيء هو تشكيل حكومة، فما هي سيناريوات حكومة الإنقاذ؟

لأن مصداقية الحراك في الشارع ترتبط بعدم تمييزه للرموز السياسية الحاكمة، وإصراره على شعار كلن يعني كلن ، يفترض البحث أولاً عن رئيس حكومة من خارج الطقم السياسي تحت مسمّى تكنوقراط. وهذا هو باب الاستعصاء الأكبر، فأين هو الاسم الذي يلقى لخبرته ونظافة كفه وسيرته الوطنية ونجاحاته المبنية على عصامية تشبه سيرة الرئيس سليم الحص، ليقبل به المعنيون في السلطة ويرضى به الحراك؟ ويكفي لتظهير المأزق الإشارة إلى أن بعض جماعات في الحراك صارت تتداول أسماء من نوع السيدة ليلى الصلح، شقيقة الأمير السعودي الوليد بن طلال، أو صاحب إحدى المحطات التفزيونية، أو أسماء لناشطين حقوقيين أو نواب معارضين، معلوم سلفاً أن الانقسام حولها سيكون سهلاً وسريعاً وتحقيق الإجماع حولها من الحراك لترشيحها مستحيل. فكيف بضمان موافقة القوى الأساسية في الحكم؟

هذا الاستعصاء الانتحاري يواكبه مخرج أشدّ انتحارية، وهو استثناء رئيس الحكومة سعد الحريري من فيتو مشاركة السياسيين البارزين، والمشاركين في الحكم، بحيث يصير لحكومة الإنقاذ مسمّى واحد، وهو إخراج حزب الله من الحكومة بصورة يحتفل بها الأميركي كإنجاز حققته الانتفاضة كما بشرت صحف أميركية عديدة، وإخراج رئيس التيار الوطني الحر من الحكومة، بصورة تمنح القوات اللبنانية فرصة احتفال موازٍ بالانتصار. وبالتالي سقوط الحراك بالتحوّل إلى أداة سياسية لمشاريع داخلية وخارجية دأب الحراك على نفي تخديمه لها، وها هو يقع فيها بعيون مفتوحة وأقدام ثابتة، فينتحر لأنه يفقد نزاهته ونظافته ويصير البحث عن مخرج من فخّ وضعه لنفسه اسمه حكومة إنقاذ، مدخلاً لوضع البلد في قلب لعبة سياسية داخلية وخارجية هدفها تحجيم وإضعاف تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر، وتقديم فرصة نصر لأعداء المقاومة وخصوم التيار الوطني الحر، من دون أي تقدم نحو إصلاح سياسي أو اقتصادي، والإصرار مستمرّ على نفي تهمة سرقة الحراك نحو تحويله إلى أداة للتخديم السياسي، ولأن التوازنات الحاكمة لن تسمح بهذا الخيار فينتهي تكليف الرئيس الحريري مجدداً برضا الحراك وقيادته غير المعلنة إلى تصريف أعمال طويل وانتظار طويل لولادة حكومة جديدة. وهذا مخرج لا يقلّ انتحارية بالنسبة للحراك، لذلك فإن الطريق المسدود سيصير مغلقاً بإحكام ولزمن طويل ويصير الانتحار في منتصفه طوعياً.

– في حال بقي الحراك مخلصاً لطلب حكومة من غير السياسيين والحكام، رئيساً وأعضاء سيبقى الاستعصاء، أو ارتضى إعادة تسمية الرئيس الحريري وانتظار ولادة حكومة ترضية، فإن الأداة الضاغطة التي يملكها هي قطع الطرق وتصعيدها بخطوات أشدّ تأثيراً على الناس والحركة الاقتصادية، والحركة مستوحاة من تجارب حزبية للضغط المتبادل، لم تستطع الاستمرار ولا حققت أهدافها، لأنها قامت على معاقبة المواطنين واستخدام لقمة عيشهم وسيلة ضغط على فريق سياسي يملك قدرة تحمل أكثر من الناس، ويملك قدرة ردّ موازية، فكيف عندما يصير الضغط على كل السياسيين، القادرين على التحمل أكثر من الناس، والناس تصير وقود ما يُفترض أنها ثورتهم، وتبدأ النتائج الكارثية بالظهور، قهراً وخوات وفلتاناً مالياً وتجارياً وفقداناً للسيولة وغضباً شعبياً وتعباً في الساحات، ونقصاً في المشاركة، ومناشدة للجيش والقوى الأمنية بفض الاعتصامات في الطرق، وهي اعتصامات يفسّرها عملياً القلق من عدم مشاركة الناس في الإضراب الذي يراد فرضه بالقوة. وهذه ديكتاتورية مقنعة بلباس الديمقراطية. فالثورات تستند إلى إضراب الجامعات والمدارس والمؤسسات الاقتصادية بطلابها وأساتذتها وموظفيها، وليس بفرض الإضراب القسري بالإقفال، والحاصل الطبيعي للقهر هو الانفجار، وثورة ضد الثورة، بدأنا نراها بأمّ العين أمامنا مع أحداث متكررة كانت أقساها مشاهد ساحة رياض الصلح وجسر الرينغ أمس، مهما اختلفت التسميات التي تمنح لها، وبالنتيجة هذا انتحار للحراك.

– للانتحار اليوم طريق عنوانه قبول دخول الحراك تحوّله أداة للعبة سياسية محلية وخارجية عبر التنازل عن حكومة إنقاذ برئيسها وأعضائها من غير السياسيين تلقى الإجماع، نحو تعديل حكومي يُخرج حزب الله ورئيس التيار الوطني الحر من الحكومة فيحقق نصراً لخصومهما في الداخل والخارج، أو قبول تسمية الرئيس الحريري مجدداً ودخول نفق الانتظار الطويل، والتآكل الأقصر والأسرع، ودائماً مواصلة الضغط عبر قطع الطرق، نحو حكومة تلتزم شعار كلن يعني كلن برئيس منهن أو مش منهن ، وصولاً لطريق مسدود يتآكل معه زخم الحراك، ويصير فتح الطرق، الذي طلب الحريصون على الحراك أن يكون طوعيّاً من القيّمين عليه، قسرياً بما يعادل هزيمة الحراك كله وكسر إرادة التغيير التي بشّر بها.

– للأسف ليس هناك مَن سمع نداء السيد حسن نصرالله، ليتلقاه بتواضع ويعيد التفكير نحو التمسك بعنوان الإصلاح السياسي والاقتصادي، بالبقاء في الساحات وتزخيمها، وفتح الطرق طوعاً، ورسم أهداف من حجم أولوية فرض تطبيق الحكومة لوعودها، ومحكمة للفساد يحمي مهمتها رفع الحصانات ورفع السرية المصرفية، وتعمل وفقاً لجدول زمني واضح، والبدء بالضغط لصالح قانون انتخاب على أساس لبنان دائرة واحدة وفقاً للنظام النسبي، ليصير بعده ومعه، ثمّة قيمة للحديث عن انتخابات مبكرة، وبالتالي حكومة من غير المرشّحين تشرف على الانتخابات، التي تفتح طريق حكومة جديدة وفقاً للأصول الدستورية تنبثق عن الانتخابات وتحترم نتائجها، فتحكم الأغلبية وتعارض الأقلية، وينتهي زمن حكومة كلن وتستقيم الديمقراطية.

قد يكون البعض يحتفل بما يصفه بالإنجاز الآن، لكنه في الداخل يرتعد رعباً، كما كل اللبنانيين، من النفق المظلم الذي تدخله البلاد، والذي يخدم خيارات مجهولة، حيث لا خريطة طريق واضحة، ومن لا يسكنه القلق جاهل أو ساذج أو لا تعنيه البلد مهما قال فيها شعر وأنشد من الأغاني الثورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى