الأدب الوجيز ومسألة ما بعد الخيال

د. باسل الزين

ينهض الأدب الوجيز بمهمته التجاوزيّة التي ترتكز على تأصيل نوع أدبيّ جديد من اعتبار أساسيّ مفاده العمل المؤسسيّ الثقافيّ. والواقع أنّ هذا الاعتبار، على بداهته، يحتاج توضيحًا بسيطًا بغية الوقوف على آليات عمل الملتقى الثقافيّة والولوج، من بعد، إلى مناقشة مصطلح لا نريده أن يُطلق على عواهنه، ونعني تحديدًا مسألة ما بعد الخيال.

عندما نتحدّث عن عمل مؤسسي، فإنّنا نعني هذا الأمر بكلّ دلالاته وأبعاده ومضامينه. ولعلّ أبرز هذه الدلالات هي الترفع عن الذاتية، والعبور من الأثرة إلى الإيثار. بعبارة أوضح، إنّ الاعتبارات النظريّة والمضامين الفكريّة التي ينطلق منها الأدب الوجيز ليست حكرًا على عضو في الملتقى، بل هي نتاج تفاعل ثقافيّ وحوارات مطوّلة يجري فيها عرض الأفكار ونقاشها وتبادل الآراء وتصويب المسارات وتعديل المصطلحات وتوجيه المفاهيم. هذا العمل الفكريّ الرفيع لا يستقيم بجهد فرديّ ولا يقوم على منظور أحاديّ وإلا فقد مصداقيته ومشروعيته. في هذا السياق، يحتفظ الأدب الوجيز بالملكية الفكريّة لطروحاته النظرية التي جرى عرضها وتوثيقها في جريدة «البناء» والكتاب الصادر في الأردن حاليًا والذي يحوي بين ضفتيه جميع المداخلات والمطالعات التي قدّمت في مؤتمر بيروت التأسيسي. من هنا، نجدنا مضطرين إلى حماية جهودنا الفكرية وطروحاتنا النظرية من أيّ جهة ثقافية أو غير ثقافية تحاول وضع اليد على منجزاتنا انطلاقًا من اعتبارات شخصانية أو استفادة من مواقع ومراكز سلطوية.

على المقلب الآخر، طرح الأستاذ أمين الذيب مؤسّس ملتقى الأدب الوجيز بمعيّة الأستاذة لارا ملاك مسألة ما بعد الخيال طرحًا سريعًا من دون أي تفنيد مفهوميّ في مقالة حملت اسميهما ونشرت في جريدة «البناء» تحت عنوان شعر الومضة… حقيقة ما بعد التخيّل.

حقيقة الأمر أنّ هذا المصطلح من الشفافية بمكان إذا أحسنّا التعبير عنه ومن الغموض والالتباس إذا أُطلق على عواهنه. بهذا المعنى، نجد من واجبنا إيضاحه وتبيان المقصود به بدقة.

إذا كان المذهب السوريالي قد وجد في مصطلح ما بعد الواقع أو ما فوق الواقع منطلقه التنظيري، فإنّ الأدب الوجيز، في عمليّة محاكاة بسيطة، أخذ على عاتقه التنظير لمسألة ما بعد الخيال، وإن التمسنا الدقة، مسألة ما بعد الخيال السائد.

لمزيد من الوضوح نقول: يعمل الأدب الوجيز على إعداد أبحاث نقدية موجّهة ترصد الحركات النقدية في الغرب وتعيد قراءات التراث النقدي العربي إيمانًا منه بأنّ العمل الثقافي الحقيقي لا ينبني إلا بالاستناد إلى الخبرات السابقة كي يكون بوسعه تحقيق التجاوز الذي ينشده.

من هذا المنطلق، وجد منظّرو الملتقى أنّ مسألة الخيال شغلت الحيّز الأكبر لدى النقاد العرب والغرب في آن معًا. ويكفي أن نشير في هذا السياق إلى كتابة الفاجعة التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو، هذه الكتابة التي تحاول تخطي حدود الواقع أو الموضوع المعطى كما تحاول تجاوز الذات الكاتبة واللغة المألوفة بغية تأسيس لنوع جديد من الكتابة تلعب فيه المخيّلة دور الكتابة المتحررة من كلّ الأنساق الذاتية والشروط التجريبية المعرفية والموضوعيّة. والمثير للجدل أنّ بلانشو نفسه قد ركن إلى الصمت في نهاية المطاف، معلنًا عن كتابة فجائعيّة أشبه ما تكون بدرب لا تودي إلى أيّ مكان.

وعليه، يضطلع الأدب الوجيز بمهمة يجدها طريفة ومبتكرة، مهمة تتجانس مع مبادئه الفكرية الداعية إلى تجاوز السائد، ونعني تحديدًا: مسألة ما بعد الخيال السائد.

وبعد، يكفي أن نُنعم النظر في النتاج الشعريّ العربي أقلّه في الحقبة المعاصرة لنرى من فورنا أنّ المخيّلة قد ضاقت على نفسها ولم تعُد تفتض أبعادًا جديدة أو تمثّل تجاوزًا لذاتها. بعبارة أخرى، لقد تجمّدت المخيّلة عند حدود الآفاق المفترعة والأماكن الموطوءة فلم تقدّم جديدًا أو تسلك مسالك فكريّة مبتكرة. عند هذا الحد، أتى التنظير لمسألة ما بعد الخيال السائد. ودرءًا للبس، ينبغي ألا يفهم بهذا الاصطلاح رغبة في تجاوز الخيال كما يحلو لبعض منتقدينا أن يسموه ذلك أنّ الخيال هو قطب الرحى في أي عملية إبداعية وجمالية. وعليه، يجب أن يفهم هذا الاصطلاح في سياقه الصحيح، أي في سياق التبشير بوظائف جديدة للمخيّلة.

في الواقع إنّ الحديث عن دور جديد للمخيّلة هو حديث عن تفتيق لإمكانات المخيّلة نفسها، أي العمل على وطء مساحات خياليّة عذراء وافتضاض مكامنها البعيدة الغور واستنطاق خباياها المسكوت عنها. لكن أنّى لنا أن نحقّق هذا المبتغى؟

الإجابة ببساطة متناهية: من خلال تبنّي الطروحات الفكرية للأدب الوجيز الاضطلاع بمهمة كتابة الومضة والقصة الوجيزة. ونحن لا نغالي إذا قلنا إنّ هذين النوعين من الكتابة بما ينطويان عليه من تكثيف ومحايثة ذاتيّة من شأنهما أن يصرفا النظر عن الاعتبارات الشكلانية أو المضامين السردية والاشتباكات اللفظية وأن تروما بصدق توجيه طاقات المفردة نحو أبعاد أكثر اغترابًا. قد يبدو قولنا هذا ضربًا من الحلم الطوباويّ، لكنّ النماذج التي يقدّمها شعراء الومضة وكتاب القصة الوجيزة تشي بخلاف ذلك.

الأدب الوجيز حركة فكرية ناهضة وسامقة، حركة تحثّ على القراءة وتُعنى بالشأن الثقافي والبعد النقدي، فلا تطلق أهواءها على عواهنها، ولا ترى إلى الكتابة فعلًا تعبيريًا يروم الترفيه عن مكنونات النفس، وإنّما ترى فيها فيض فكر وخيال ومشروع ثقافة ومهمة نهضوية فاعلة ومؤثّرة.

عضو ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى