الفنون الأميركية في «نصب الأزمات» العربية وعرقلة حلها

د. وفيق إبراهيم

هذا اتهام بديهي يحرّض على سؤال السلطات العربية عن الأسباب التي تجعلها تشرّع أبواب بلادها لمثل هذه التدخلات، مبتعداً في الوقت نفسه عن اعتناق نظرية المؤامرة، لأنها اكثر من واضحة ودلائلها مكشوفة حتى في وسائل الإعلام. فهل هذا طبيعي ان تطلب الدولة الأميركية من الجيش اللبناني حماية المتظاهرين وعدم قمعهم في بلدٍ يقفل الحراك الشعبي فيه معظم طرقاته الحيوية ولم يسقط إلا أربعة جرحى مصابين بكدمات طفيفة يتعرّض لأكثر منها صيادو الأحراج. وهذا في حراك مندلع منذ عشرين يوماً متواصلة.

لجهة العراق يعمل الأميركيون على حصر التظاهرات في المناطق الشيعية في الجنوب والعاصمة بغداد وجعلها تدور بين الحكومة ذات الغلبة الشيعية في السياسة وبين المناطق ذات الأكثرية الشيعية في الديموغرافيا دافعين الى إلغاء التأثير السياسي والديموغرافي للسنّة العراقيين عن الأحداث، هذا الى جانب عزل كامل لكردستان عن العراقيين العرب بسنّتهم وشيعتهم.

أما اليمن فيبدو انّ مشروع إسقاط انصار الله في الدولة اليمنية في صنعاء أصيب بفشل كبير ما استلزم العودة السريعة الى توحيد الجنوب اليمني بين نفوذين سعودي وإماراتي وفصله عن الشمال وتفتيته الى مناطق برعايات سعودية وإماراتية تحت الراية الأميركية.

فهل من معترض على هذا اللبوس الأميركي الجديد؟ دخلت في لبنان على خط الانتفاضة الشعبية الحقيقية فيه، أحزاب محلية مرتبطة بالسياسة الأميركية، فهل يستطيع أحد أن ينفي مدى السيطرة الأميركية على أحزاب القوات والكتائب والتقدمي والكثير من الجمعيات ومجمل السياسات الحريرية؟ فهذه قوى داخلية تعمل بالاستلهام من الرادارات الأميركية التي نجحت في لجم حركة الجيش وقوى الأمن.

إلا انّ الانتقادات الكبيرة التي تعرّض لها قائد الجيش ومدير مخابراته، جعلتهما يفتحان طريقاً رئيسية من بيروت الى الشمال كانت تقطعها قوات جعجع، والطريف انّ الجيش أعاد فتحها ببضع دقائق فقط، ما يكشف هزالة الذين يقطعونها.

فجاء «الأمر الأميركي» على شكل نصائح اخوية طلبت من الجيش حماية المتظاهرين ولم تنبس ببنت كلمة حول ضرورة الحوار بين المتظاهرين لتحقيق المطالب، في حركة أظهرت مدى حرص الأميركيين على «استمرار الأزمة» بصوت أطرافها كآلية لاستنزاف لبنان بكامله وضرب حزب الله الإقليمي.

ماذا عن العراق؟ الأميركيون يستنزفون العراق منذ تسعينيات القرن الماضي على مستوى الاقتصاد ووحدته الداخلية، بدليل مواصلتهم العمل على مشروعهم بثلاث دول في العراق عند الكرد والسنة والشيعة محاولين تطبيقه منذ احتلالهم للعراق في 2003 وحتى الآن، بأسلوبين اثنين: إضعاف الدولة المركزية وفتح الطرق للتدخلات السعودية التركية الاسلاموية.

فالحشد الشعبي الذي انتصر على الإرهاب محققاً نصراً مؤزراً لبلاده بكامل مكوناتها وجد نفسه مبعثراً بين أحزابه المتصارعة على السلطة بين سائرون وفتح وحكمة. فكانت تجمعهم علاقاتهم بإيران حيناً وتفرّقهم السياسات السعودية الأميركية حيناً آخر، حتى تبيّن انّ هذا العراق الغني المتميّز عن جواره بعمقه التاريخي هو من البلدان الأكثر فساداً في العالم.

لقد سرقه سياسيوه الذين كانوا يطوّعون الناس بالأسلوبين الوطني والديني ما عزز من التباينات المذهبية والعرقية في ناحية والصراع بين الفساد السياسي والشيعة في الجنوب وبغداد من ناحية ثانية.

لقد تبيّن لهؤلاء أنهم بلا عمل ولا بنى تحتية ولا مياه عذبة، وصولاً الى حدود الجوع فشنّوا تحركاً ضخماً مستمراً منذ اشهر وبلا كلل او ملل، حتى انّ مئات القتلى وآلاف الجرحى الذين سقطوا بنيران جيشهم وبعض الفئات المندسّة لم تنجح بعرقلة انتفاضتهم. انه الجوع الذي لا يهدأ.

هنا تظهر معلومات تكشف بأنّ الأميركيين يمنعون الحكومة العراقية من اكتمال نصابها السياسي سنة وشيعة وأكراد فلا تتمكّن من تأمين حلول لاستيعاب المطالب الشعبية وتمنع أيضاً رئيس الحكومة من الاستقالة بذرائع متنوّعة تُخفي بمضمونها محاولة أميركية لتأجيج الحراك الشعبي.

الملاحظ هنا مدى الحرص الأميركي على نصب الأزمة وتطويرها ومنع إيجاد حلول لها وبعيداً من نظرية المؤامرة يريد الأميركيون للحراك العراقي التأزّم الدائم في سياق تصاعدي لا يؤدّي الى تدمير الدولة، لأن لها أبعاداً سنية كردية لكنه يصيب علاقة أهل الجنوب وبغداد بالجزء السياسي الذي يمثلهم في الحكم، متمدّداً نحو التأسيس لعلاقات سيئة مع قوى الحشد الشعبي ومدركاً حدود رفض العلاقة مع إيران بذريعة أنها الداعم الأساسي للحشد الشعبي وامتداداته في حكومة العراق، المطلوب إذاً تشديد الحصار على إيران من جهة العراق الذي تمتلك معه أكبر حدود لها مع جيرانها ولها معه أوسع علاقات سياسية تسمح لها بالتسلل الاقتصادي وخرق الحصار الأميركي.

بذلك يحقق الأميركيون أهدافاً عدة في آن معاً وأولها الاستمرار في التفتيت المذهبي والعرقي للعراق ومنع تشكله كدولة قوية قابلة للتنسيق مع سورية ومحاصرة الخليج. هذا بالإضافة الى استكمال عملية خنقها لإيران من أكبر زاوية مفتوحة لها مع العراق وبالتالي سورية.

ما يقفل الطرق الإيرانية السورية العراقية معرقلاً في الوقت نفسه التمدّدين الروسي والصيني في الإقليم.

ويفعلُ الأميركيون الأساليب نفسها في سورية لكن مشكلتهم مع الدولة السورية انها نجحت بالتحالف بين دولتها مع الجيش والشعب في احتكار تمثيل الشعب السوري أطيافاً وأعراقاً ومناطق حتى بات كلّ من يعاديها خارجاً عن الإجماع الوطني بإقرار دولي واقتناع الأصدقاء والأعداء.

هي إذاً أساليب أميركية متجدّدة ورثت الأساليب المهزومة في ميادين سورية والعراق، فهل ينجو كلّ من العراق واليمن ولبنان من الأساليب الجديدة؟

حزب الله في لبنان أوّل الناجحين في التعامل الوطني الرشيق مع الحراك اللبناني واحتواء مظاهره الخطيرة، فيما يتهيّأ اليمن الشمالي لنصرة الجنوب، وتبقى القلوب المتخوّفة على العراق المستهدف من كلّ حدب وصوب، فهل تبتكر قواه الوطنية حلولاً تزيل السموم الأميركية والسعودية والتركية؟

إمكانات قواه الوطنية كبيرة وأوّلها إصدار مشروع يتساوى فيه العراقيون في السياسة والاقتصاد والاجتماع وضرب الفساد السياسي. وهذا ليس بصعب على أرض الرافدين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى