فخ الهويات القاتلة

نظام مارديني

هل دخلت دول الهلال السوري الخصيب مرحلة إعادة إنتاج الجغرافيا السياسية الداخلية على أساس فكرة المكوّنات الإثنية والطائفية؟ وهل صناعة جغرافيا سياسية جديدة لبعض هذه الدول هي الحل للتضاد «العرقطائفي» و«الطائفمذهبي» والاحتراب الدائم؟ وهل أن الولادات «الأميبية» المتحولة للدويلات هي حل لأزمات بعض هذه الدول الفاشلة، الفاقدة الوحدة الوطنية والغارقة في صراع الهويات المتخيّلة؟ وهل تفتيت «سايكس ـ بيكو» هو الحل الأوحد لتضاد الإثنيات والطوائف والمذاهب التي أجهضت مشروع الدولة الوطنية أو القومية؟

يحاجج البعض بالقول إنَّ رؤية مراكز القرار الدولي الراهنية تتمحور حول إعادة إنتاج جديد للجغرافيا السياسية لأكثر من دولة، وتحديداً في العالمين العربي والإسلامي، حماية للمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، ما يعني أنه سيكون هناك أكثر من «سايكس ـ بيكو» لتغيير وجه المنطقة وإحداث انقلاب في ثوابتها الراسخة وظهور ما كان يُسمى آنذاك بـ«المسألة الشرقية» مطلع القرن العشرين.

لكن هل يكفي القول بوجود مؤامرات غربية لتفسير جميع التداعيات والانقسامات والتشرذمات الحاصلة والتي ستحصل لشعوب المنطقة ودولها؟

المؤامرات موجودة وستبقى، إنها جزء من حرب المصالح التي لا تتخلى عنها دولة، صغيرة أو كبيرة. هي حرب تتجدّد وتتموضع وتتجلى بحسب متغيّرات التاريخ، إن لم تكن هي صانعة هذا التاريخ. التاريخ هو أصلاً سجل حروب لمصالح متضادة لأمم ودول.

يدور الجدال منذ فترة بين عدد كبير جداً من الكُتاب والمفكرين العرب عن شكل الدولة العربية وهويتها القادمة، خاصة بعد تهاوي نظم شمولية في المنطقة كرّست هوية عنصرية وهمّشت ثقافات داخلية. وحقيقة الأمر أنّ هذا الجدال هو في شكل الدولة وهل هي مدنية أم طائفية سنية ـ شيعية ؟ وإذا كانت مدنية، هل هي برلمانية أم رئاسية؟ هذه الأسئلة والمناقشات تمهّد الطريق بلا شك لجعل الجماعات تحفر الخنادق كي يتمترس كلّ منها في الخندق الذي يناسب هويته الخاصة، والغاية من هذه المناقشات هي دفع الإثنيات والطوائف إلى البحث عن هويات ثانوية يتصارعون من خلالها، بعضهم مع بعضهم الآخر لفترة من الزمن.

هذا الجدال يبعدنا عن أساس المشكلة التي تعانيها المجتمعات العربية، خاصة في بعض دول الهلال السوري الخصيب، بل يبعد شعوبنا عن جوهر الأزمات وأسبابها، فهذه الأزمات لم تحصل نتيجة تباين في شكل الدولة وهويتها فحسب بقدر ما هي ناجمة عن أوضاع ثقافية واجتماعية، وحتى اقتصادية صعبة يعيشها المواطن، ومن هنا فإنّ شكل الدولة يجب أن يكون ذا أبعاد وطنية ـ قومية أكثر منها هي ذات هويات ثانوية تحاول فرض نفسها من خلال حلقات من النقاش في مرحلة انتقالية تتسم دائماً بالخطورة وسوء الفرز والفهم معاً.

هل الحقيقة الراسخة في هذا الشأن هي، مثلما يقول هارلمبس وهولبورن في كتاب «سوسيولوجيا الثقافة والهوية»، في أنّ «المجتمعات الحديثة تميّزت بالتغيّر السريع، ازدادت في فترة الحداثة المتأخرة سرعة التغيّر على نحو جعل من الصعب أن يحتفظ الناس بإحساس موحد بهويتهم»؟

إننا حتى هذه اللحظة التاريخية أقرب ما نكون إلى قطع الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتحد… نحن مجتمع الجماعات الضيقة المنكفئة والرافضة للآخر الوطني، مجتمع العصبيات المذهبية والطائفية والإثنية الغارقة في هوياتها الخاصة على حساب الهوية الوطنية والقومية الأتمّ. فعندما فشلت أنظمتنا في إنتاج دول المواطنة تساءلنا لماذا نبتت دول الإثنيات والمذاهب والطوائف مثل الفطر السام. وبعدما فشلنا في خلق المشترك الوطني في وحدة الحياة، تضخمت لدينا الهويات الفرعية التي تسعى الى الانفصال عن الشريك الآخر. ولما فشلنا قومياً في تحرّي المشترك الإنساني المحقق لخصوصية ومصالح المجتمع بجميع فئاته وجماعاته وأقلياته، ذهبنا بعيداً نحو الصراع والاحتراب.

من الضروري الاعتراف بأنّ نموذج الدولة الذي أنتجناه طوال العقود المنصرمة فشل، ولسنا هنا في وارد توجيه النقد بقدر ما نحتاج إليه لإعادة صوغ الهوية القومية وبما يوحد الجماعات الإثنية والطائفية والمذهبية. لقد أنتجنا مُسمّى «دول»، كيانات سلطة تحتال على مفهوم الدولة وفلسفتها ووظائفها، مُسمّى «دول» خالية من ضمانات المواطنة والديمقراطية الحاضنة للحقوق والحريات المدنية السياسية والاقتصادية والثقافية، فتعدّدت الهويات والسلطات والمصالح لتفترس المجتمع بسائر مكوّناته، ولتبتلع الدولة والهوية القومية.

المجتمعات فاقدة الوحدة الذاتية المتأتية من قبول الآخر، والدول الفاشلة القائمة على أساس أفكار التعنصر والاستبداد والاحتكار والفساد… مجتمعات ودول كهذه إنما تحمل جرثومة الفناء في أحشائها سواء كانت هناك مؤامرات أو لم تكن.

لم يعد ممكناً أخلاقياً، في مواقف أهل الفكر والثقافة، مسايرة التبسيط والمجاملات في الشأنين الوطني والقومي، بل نرى أنّ من الضروري تغطية المواضيع ذات العلاقة لإعداد القراءة التحليلية للمرحلة الممهّدة المقبلة ومنه:

الانقسام الطائفي – الاثني، الخلفيات الاجتماعية – الثقافية وآليات تعميق الانقسام في السنوات الماضية، الدستور وإعادة بناء الدولة، الحراك السياسي الفئوي والحزبي وآفاق المستقبل، التنمية الاقتصادية المعوّقة والنهضة المنتظرة، السياق الدولي – الإقليمي للانقسام في العراق، والأزمة في سورية، وسلوك النخب القائدة في هاتين الدولتين ودوريهما في إرساء مقومات الانقسام في الهوية الوطنية.

لا يمكننا القول عن الأزمات التي تتعرّض لها سورية والعراق بأنها تتزامن مع حالات سلبية أو ظواهر مستهجنة أو حالات مرفوضة، بل تفرز تلك الأزمات ربما مناطق غير مكتشفة داخل ثنايا المجتمعات وزوايا المبادرات التي تنتج منها، والتي قد تترسّخ في الذاكرة وتترك آثارها في الأجيال الراهنة والمستقبلية سلباً وإيجاباً.

قد يفسّر الصدام الدلالي اللغوي وحروب التسميات على المناطق، إلى أيّ مدى ذهبت هوية تلك المناطق ضحية للصدام بين الجماعات، فكلّ جماعة بقيت تعيش عزلتها الخاصة. والعزلة تعزز الانكفاء في حدود هوية ضيّقة، والعكس صحيح أيضاً. فالعزلة والشعور بالتهديد والارتياب من الآخر تخلق في النهاية سوء فهم عميقاً بين الشعب الواحد، ومن ثمّ تهيّئ الأرضية النفسية والمادية للانفصال والانقسام العمودي والأفقي.

لذلك فإن أكبر تحدٍ يواجه دول الهلال السوري الخصيب هو محاولة صناعة المزيد من الهويات الفرعية التي تُقسم الشعب مسمّيات جديدة وعناوين تتيح هي الأخرى لصُنّاعها تبوّء مقعد هنا أو هناك.

لكن من وما الذي يقرّر هوية الجماعة؟ أهي نفسها أم تقلبات ظروفها الحياتية وحظوظها والفرص التي تتاح لها والتحدّيات التي تواجهها، وفيمَ ترغب وفيمَ تأمل؟ أم أنّ هذه الحالات مجتمعة تفعل فعلها هنا بدرجات متفاوتة إذ تختلف الحال من جماعة إلى أخرى ومن زمن إلى آخر؟

غالباً ما تدخل الجماعات المتورّطة في النزاعات والممسوخة صورتها في خطاب الآخر، على تأسيس صورة زائفة عن نفسها وجماعتها، وستكون تحت ضغط وتأثير موجِّه عصابي، فتزداد لديها شحنة العدوانية والشروع في العنف. وغالباً ما تدخل هذه الجماعات المتورّطة في فخ الهويات «الضيقة ـ القاتلة».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى