الياس الزيات : محترفنا السوريّ ينهل من مخزون حضاريّ غنيّ ومتنوّع

اعتدال صادق شومان

الفنان التشكيلي الياس الزيات، من جيل الفنانين السوريين الذين أثروا الفن بطابعهم الخاص. حداثة عمادها خصوصية تاريخية صقلها بمضامين رمزية أخلاقية وفلسفية روحية، فكانت له المكانة المتقدمة على ساحة الفن التشكيلي بين النخبة الذين استعادوا فلسفة الفن القديم في لوحة معاصرة وأوصلوا هذا الفن الى مستوى رفيع .

تجلت تجربتة بما حملت من ملامح تعبيرية ومفردات أسطورية استمدت روحيتها من وحي فن الأيقونة السورية، الذي تعشقه الزيات منذ خمسينات القرن المنصرم وسهر على استكشافه ليغدو الموثق الوحيد له من خلال أبحاثه وكتاباته الفنية. «معلم» لجيل الشباب من طلابه الذين اطعلوا منه على أسرار الفن وخصائصه، بمختلف مدارسه، ونهلوا من زوادة مواهبه وأبعاده الروحانية والثقافية.

توالدت لوحته من بقعة الزمن الغابر ولوجاً الى رحاب الحداثة، مولعاً دائماً بمتطلبات الجمال ومعاني الحياة كقداس احتفالي. تطل شخوصه من مهب اللون مضرجة بإلأحمر القاني، مثل الدم المهدور على نصل أيقونة منذ الأزل. تعج عنده الألوان تدرجاً من طرف ريشة تتألق بكثافة أو شفافية أوتضرب بقوة وتحد، مستثمراً قدرته في استخدام تقنية كيمياء اللون، مجال تخصصه.

هو الدمشقي المنتمي الى أقدم مدينة قائمة في التاريخ، ليس مستغرباً انتسابه العميق الى جذوره السورية موروثاً ثقافياً ونفسياً يتسامى بكل ما هو حق وخير وجمال.

وفق السيرة، هو من مواليد دمشق عام 1935 اتم دراسته الثانوية في المدرسة الأرثوذكسية.. احب العمارة وأراد دراستها لكن والده لم يتمكن من إرساله آنذاك الى بيروت لدراستها بسبب ارتفاع الكلفة، فتحول الى دراسة الرياضيات في جامعة دمشق، الى جانب تلقيه دروس في فن التصوير على يد الفنان ميشال كرشه رائد الانطباعية في زمنه بين عامي 1952 و1955، ثم تشاء الفرص أن يحصل على منحة لدراسة الرسم وتقنياته أكاديمياً في بلغاريا حيث تلقى قواعد الفن على يد الفنان المعروف إيليا بيتروفبين عامي 1956 و 1960. واستكمالاً لدراسته قصد القاهرة وتابع الفنان عبد العزيز درويش. في عام 1973 تدرب على تقنيات الترميم بما يسمّى كيمياء الألوان في بودابست. درّس في كلية الفنون الجميلة في دمشق منذ عام 1962 حتى عام 2000 تاريخ تقاعده الوظيفي، وفي تلك الفترة تنقل بين منصب رئيس قسم الفنون ووكيل كلية وممثل لجامعة دمشق في محافل عالمية، إلى جانب دوره في هيئة الموسوعة العربية . عُرف مرجعاً في تعريف الفن الكنسي. أعماله مقتناة في عدد من العواصم العربية والأوروبية، له دراسات عديدة حول تاريخ الفن وتحديد الأيقونة الشرقية، ومن حصيلة مساهماته تأسيس كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 1960 بالتعاون مع كبار فناني جيله في حينه، وهو اليوم في صدد إصدار كتاب عن تاريخ الأيقونة في بلاد الشام، وهذا مشروع نقدي للأيقونة يتساءل فيه عن كيفية تجدد الفن الأيقوني في ضوء الفن المعاصر. ساهمت دراساته ومحاضراته في إلقاء الضوء على تاريخ سورية الحضاري من مرحلة ما قبل الميلاد وصولاّ الى عهود الحضارة الأشورية والبابلية، فتلاقي «الحضارتين» المسيحية والإسلامية.

ليس بعيداّ عن دمشق وعن دفء مرسمه حيث، إقامته الدائمة، التقته « البناء» في بيروت، وكانت لنا معه وقفة ليست سوى غيض من فيض حول سخاء تجربة مستمرة منذ نحو خمسين عاماً. حدّثنا بتواضعه الجم وعفويته ودماثة خلقه التي بددت تلك الرهبة المسوّغ وجودها بحضور فنان كبير بقامة الياس الزيات.

الفن التشكيلي مدارس فنية متعددة، لكل منها أسلوبها الخاصوروادها، و لكلّ طريقته في تشكيل الرسوم واللوحات وفق منهجية فنية ينهل منها وتتبلور مع تراكم الخبرة، فأين لوحة الفنان الياس زيات اليوم من تلك المدارس؟ يجيب الزيات: «بداية، لكي تكون فناناً فإنّ الثقافة واجبة المقام الأول، ولا بد لهذه الثقافة من أن تتجلى في أي عمل فني في خضم التحولات الثقافية والسياسة والاجتماعية التي ترمي بثقلها على نحو كبير في الفنون كافة، خاصة الفن التشكيلي الذي هو أول لغة تعبيرية للإنسان. على مر العصور صارع الفنان ليبقى منسجماً مع ما يعتمل في أعماقه من أحاسيس وانفعالات تمس مبادئه ومعاييره الفنية وما يدور في واقعه. والفنان السوري في طبيعة الحال جزء من هذا المفهوم للغة الفن، ولو عدنا الى أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الذي يعتبره نقاد الفن ومؤرخوه بداية الفن التشكيلي السوري المعاصر، فإن تلك الحقبة شهدت تحولات سياسية واجتماعية تركت آثارها في مسيرة الحياة التشكلية. أضف التأثير الأوروبي وظهور التيارات على اختلاف مدارسها إذ خلقت جدلية فنية معينة. هذه التطورات أثرت بي بلا شك وأنا العائد من أوروبا في تلك المرحلة متاثراً بمدارسه ومزهواً بكبار الأساتذة وبالمخزون الغني من الفنون في بلادنا التي يطلقون عليها أرض الحضارات. وجدتني أعود الى خوابي التاريخ وعنابر الحضارة مستوحياً جمالياتها وساعياً الى إعادة توليدها تجريدياً وفق حس فني معاصر يمنح تلك الصور والأشكال معنى جديداّ. خضت أنواع الفنون كافة واستقيت من كل مدرسة أبعادها لأصل إلى صيغتي الشخصية، من انطلاقة كلاسيكة مع المدرسة الواقعية، إلى التجريد، وأنا أعبر اليوم بالرمزية». ويتابع الزيات قائلا: بالعودة إلى الحركة الفنية السورية فإنها تنتمي الى مختلف حركات الفنون في العالم العربي وتواكبه وتتبادل معهم الخبرات، وأهم ما يميز الحياة التشكيلة السورية غناها بالاتجاهات والتجارب، لتعدد الحواضر التي ينهل منها التشكليليون السوريون واتساع صلتهم بالتجارب الفنية في أنحاء العالم. لكن رغم ذلك لم يرق الفن التشكيلي السوري الى مستوى الفن العالمي، على عكس التشكيل العربي، خاصة في مصر ولبنان، علماً أن تاريخ الفن في العالم العربي ترافقت انطلاقته مع الفن السوري وقد يكون مرد ذلك البيئة الحاضنة للفن في زمن الوصايا الاستعمارية على بلادنا، فنرى أسماء لمعت في عالم الاغتراب، مثلاّ الفنان اللبناني شفيق عبود صاحب الإسم الكبير في فرنسا، وهو رسام من الدرجة الأولى. والفنان داود القرم. اليوم في سورية، ويا للأسف، لم يلمع إلاّ اسم الفنان الكبير فاتح المدرس. إنه اسم عالمي بامتياز واعتبره من أبرز رموز الحداثة في الفن التشكيلي العربي وأول من نشر التجريد في سورية.

يحوم السؤال مع الزيات حول تجربته الفنية التي واءم فيها بين خطوط الحرف ورؤيا الأديب جبران خليل جبران للإنسانية الكونية مجسدة في « النبي»، وسبق أن احتفى بالأديب الكبير في معرض أقامه تحت عنوان « تحية الى جبران» من خلال خمس عشرة لوحة ضمّنها مقاطع ونصوصاً من كتابات جبران بأسلوب فني تراوح بين الحرف واللون في بناء تشكيلي متنوع الأساليب الفنية بين التعبيرية والرمزية والتجريدية، الى جانب خطوط كلمات بقلم الرصاص، وهو يستعد الآن لإقامة معرض في دبي للوحة من وحي « نبي جبران» أسماها « الطوفان». هذا الهمس اللوني بين جبران والزيات يذكرنا بالحوارية الإبداعية التي أنتجها لقاء الشاعر أدونيس والرسام فاتح المدرس. ولا يغيب عن متتبعي الزيات امتلاكه الكلمة قبل الرسم، وتجلياته الشعرية مواكبة لناصية الرسم .

عن هذا التلاقي يقول الزيات: «إنه امتداد لتكويني النفسي وثقافتي وانتمائي، فكلانا متلاحم بعبق التاريخ وفلسفة الإنسان وفلسفة الحياة والوجود، جبران. هذا المبدع من بلادي آنست الى نهجه في كتاباتة ورسومه في مرحلة باكرة من حياتي، وليس «تحية الى جبران» إلاّ بلورة للحظات التواصل تلك، ليس لما جاء في «النبي» فحسب، بل لمجمل عالم جبران الغني، فهو كتب الكثير وطرح العديد من الأسئلة التي تدعو إلى تسامي النفس والفكر الإنساني نحو فضاءات أرحب.

مع» المعلم»، كما يناديه طلابه، يخطر السؤال عن جيل الشباب من الفنانين السوريين في ظل الظروف السائدة، وعن رؤيته لواقع الحركة التشكيلية السورية؟

يجيب: «لا شك في أن الفن التشكيلي في ظل الظروف المأسوية التي تشهدها بلادنا وغياب الرعاية والاحتضان للفنانين الشباب يشهد حالة من التراجع، وهذا طبيعي تحت وطأة الحرب القائمة، بعدما كانت محتضنة. في السنين العشر التي سبقت الحرب على سورية عاشت حالة تطور وانتعاش، إن لجهة رعاية وزارة الثقافة للفنانين، أو بإقامة المعارض وتسويق أعمالهم واقتنائها، أو لجهة تشجيع افتتاح المعارض ودعمها، يا للأسف، اصطدمت هذه الحركة في أوج انطلاقتها بتداعيات هذه الحرب الكونية على بلادي. لكن رغم صعوبة الأحوال وآثارها السلبية، لست خائفاً على المحترف التشكيلي السوري لأنه نبض شبابي في المقام الأول ولأنه ينتمي إلى مخزون حضاري كبير وهو مصدر وحي وإلهام لأعمالهم. عليهم استيعاب هذا الإرث جذوراً وتراثاً الى جانب تذوّقهم واطلاعهم على الفن العالمي لتكوين رؤيتهم الخاصة، فالفن لا يتراكم إلاّ معرفياً. نصيحة لهؤلاء: امتلكوا المنهج الواعي واحذروا العولمة الفنية والعصرنة بشكل خاطئ كي لا تفقدوا الذات. .تبنّوا فنوننا القديمة وطوّروها بمعاصرة حديثة عربية وعالمية، مع اتقان الأساليب الفنية والتقنيات المتنوعة لخدمة الفكرة والموضوع .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى