مدارات

رئبال مرهج

«لا يمكن لأحد أن يفرض شروطه على روسيا»، قالها بوتين. لكمات مختصرة ووافية، كافية لأن تعبّرعن مكانة روسيا في عهد القيصر.

فأول من أمس وبعد اجتماع ماراتوني خرجت مجموعة النورماندي باتفاقٍ يشكل أساساً لإنهاء الأزمة في أوكرانيا.

لم تكن بنود الاتفاق متوافقة مع شروط روسيا فحسب، بل تعدتها إلى أبعد من ذلك، وهي تسليم الغرب بقوة روسيا ودورها الرئيس في العالم، فأتى اتفاق مينسك مبشراً بولادة العالم الجديد، عالمٌ أساسه التشارك والتوازن بين مختلف القوى الرئيسة في العالم.

منذ تفكك الاتحاد السوفياتي وانهيار الكتلة الشرقية في أوروبا، لم تكتف الولايات المتحدة الأميركية بتفردها بصنع القرارات في العالم، بل عمدت أيضاً إلى خلق الأزمات، بحسب مصالحها وأهوائها، وباشرت قبل عقد من الزمن بمجموعة إجراءات هدفت إلى محاصرة موسكو استباقاً لعودتها إلى الساحة العالمية خصوصاً بعد فشل سياساتها وتخبط قراراتها في عهد الرئيس جورج بوش الابن، أهمها الدعوة إلى توسيع الحلف الأطلسي ونشر الدرع الصاروخية شرق أوروبا.

ففي كانون الثاني من عام 2008 وأثناء اجتماعه مع نظيره الأميركي، صرح وزير الدفاع البولندي بوجدان كليش بأن أميركا مستعدة للبدء ببحث تحديث النظام الدفاعي لبلاده، وهو شرط وضعته وارسو للسماح بنشر عناصر من الدرع الأميركية المضادة للصواريخ في بولونيا، أتى ذلك الاجتماع بعد أقل من شهرين على موافقة التشيك على استضافة جزء من النظام نفسه أدى ذلك إلى توتر الأجواء مع روسيا فقال الجنرال «ميخائيلوف» قائد القوات الجوية الروسية بأن موسكو لديها كل ما تحتاجه للردّ بالشكل المناسب على كل تلك الانتشارات.

وأعلن نائب رئيس هيئة الأركان الروسية الجنرال «اناتولي نوجوفتسين»، أن اتفاق بولندا مع الولايات المتحدة على وضع أجزاء من درع دفاع صاروخية في الأراضي البولندية يعرض بولندا لهجوم عسكري محتمل، ثم جاء التدخل الروسي في جورجيا الأطلسية، كردّ استباقي قبل تنفيذ الاتفاق الاميركي مع بولندا.

على إثر الرد الروسي، تراجع الموقف الأميركي، متحججةً بما أعلنه وزير دفاعها روبيرت غيتس في أيلول 2009 بأن واشنطن تنوي تشكيل بنية جديدة للدرع الصاروخية ستحمي أوروبا كلها.

جاء انسحاب القوات الأميركية من العراق بداية عام 2012 تحت ضغط خسائرها العسكرية، متزامناً مع فشلها في إسقاط الدولة السورية، حليفة موسكو، وبعد سنتين من الصمود السوري، استطاعت موسكو نيل اعتراف أميركا بمشاركتها في الحل السوري، حيث توصلتا معاً في جنيف في أيلول 2013، إلى إتفاق ينهي ملف الأسلحة الكيماوية السورية، ليصبح ملف الكيماوي السوري اللبنة الأولى في عودة روسيا إلى لعب دور رئيس في الشرق الأوسط، فحاولت الولايات المتحدة إضعاف الدور الروسي وتهميشه بأن افتعلت الاضطرابات في حديقة روسيا الخلفية، أوكرانيا، مهددة الأمن القومي الروسي مباشرة، وتزايدت الدعوات مجدداً إلى توسيع الحلف الأطلسي ليضم دولاً أخرى كانت تقع في المدى السوفياتي السابق ليصل إلى حدود روسيا، إذ صرح جون كيري في بداية العام الماضي أن حلف شمال الأطلسي مستعد لقبول أي دولة أوروبية في صفوفه، في إشارة إلى أوكرانيا، كما كشف مايكل روجرز عضو الكونغرس الاميركي عن نية واشنطن نشر الدرع الصاروخية في قاعدة ديفيلسيو في رومانيا حتى نهاية 2015، بينما دعا ديفيد كاميرون رئيس الحكومة البريطاني الحلف الأطلسي إلى نشر قوات وعتاد عسكري بشكل دائم في استونيا وليتوانيا ولاتفيا وعلى إقامة مقر دائم للحلف في دول البلطيق الثلاث.

أدركت موسكو خطر الإجراءات والخطط الأميركية وتحرك بوتين سريعاً، فاسترد القرم، في خطوة وصفها بالتاريخية، وفسّرها المراقبون على أنها بداية لتغيير خريطة أوروبا، فيما صرح بوجينسكي الرئيس السابق لدائرة المعاهدات الدولية في وزارة الدفاع الروسية في آب الماضي، أن روسيا دولة نووية، وإذا ما ازداد نشاط الناتو فى شرق أوروبا فبإمكانها نشر فوج من بطاريات صواريخ «اسكندر» في مقاطعة كالينينغراد الواقعة في أقصى غرب البلاد، وجاء إقرارالبرلمان الروسي «للعقيدة الروسية» الجديدة بمثابة الإنذار الأهم لدول الغرب وإعادة تذكيرها بقوتها، كدولة عظمى، إذ اعتبرت الحلف الأطلسي يشكل تهديداً أساسياً لأمن روسيا القومي، كما يضمن احتفاظها بحقها في استخدام ترسانتها النووية إذا ما تعرّضت هي أو أحد حلفائها لعدوان أو حتى في حال وجود تهديد لوجود الدولة نفسه.

ومع الصمود الروسي والتلويح بالذهاب إلى أبعد من حرب عالمية تقليدية، قررت أوروبا أن تتراجع وبدأ الحديث عن ضرورة تسوية الخلافات بين روسيا والغرب ضمن أطر سلمية تضمن المصالح للجميع، فجاء اتفاق مينسك متوافقاً مع طموحات موسكو، إذ تتضمنت بنوده سحب الجانبين لجميع الأسلحة الثقيلة مسافة متساوية بهدف إنشاء منطقة عازلة وبالتالي حرمان حكومة كييف الموالية للغرب من السيادة الكاملة على أجزاء واسعة من أقاليمها الشرقية المحاذية لروسيا وتتالت الدعوات إلى إقامة أمن وشراكة أوروبية جديدة وبالتالي دق المسمار الأخير لمشروع واشنطن في انشاء الدرع الصاروخية شرق أوروبا، لتتحول طموحاتها في توسيح الحلف الأطلسي إلى مجرد أوهام.

نجح بوتين في فرض شروطه على الغرب، وأثبت قدرته على تحدي الإرادات الغربية. بعد أن اختبرها أكثر من مرة من جورجيا إلى مولدافيا، ثم في شبه جزيرة القرم العام الماضي استخدم القوة والصلابة، فاستطاع رد الهجوم الغربي إلى مكاسب تسجل في رصيده، وأقنع بحكمته الدول الأوروبية إلى الذهاب إلى التسوية والتسليم بشروطه بعد أن كان قد صرح أكثر من مرة أن العالم قد تغير وروسيا تطمح لخلق توازنات جديدة في العالم لا مكان فيها للتفرد بالقرارات ولا أحاديتها، وهكذا ومن رحم اتفاق مينسك، نجحت روسيا في خلق عالم جديد تتشارك فيه مع القوى العظمى في حل القضايا الساخنة في العالم، عالمٌ طالما بشرت بتشكله ونادت لتحقيقه مجموعة دول البريكس، التي قال فيها بوتين خلال ترؤسه اجتماع المجموعة في جنوب أفريقيا عام 2013: إنها تعتبر من العناصر المحورية في العالم المتعدّد الأقطاب التي ستساهم في إنشاء نظام أكثرعدالةً وتوازناً للعلاقات الاقتصادية والسياسية في العالم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى