حصرون… وردة الجبل وعروس المصايف في بشري

تحقيق: أنطوانيت شليطا

موقعها المميز على حافة وادي قنوبين جعلها مميّزةً بين قرى الشمال، وبيوتها ذات الطرابيش الحمراء، تشدّ الناظر إليها من بعيد، وتدعوه إلى زيارتها والتمتع بجمالها، وتناديه لتخبره حكايات عن ماضيها الجميل، وتقدّم له وردة الجبل عربون حب واحترام وكأنها تقول له: «أهلاً وسهلاً»… حصرون، وردة الجبل وعروس المصايف في قضاء بشري،.

حصرون بلدة العلم والثقافة، تجمع المجد من كل أطرافه، تحب الحياة بقدر ما قدمت لها الحياة من عزّ وجاه وعظمة، تعشق روح الحداثة والتمدن، بقدر ما تحافظ على إرث الماضي بغناه وأمجاده.

أعطت هذه القرية للمنطقة ولبنان رجال فكر ومعرفة، وهي تعتبر قرية البطاركة والمطارنة والأدباء. من هنا لا بد من العودة إلى الجذور وإلقاء الضوء على مساحة مهمة من مراحل تاريخها.

يعود تاريخ القرية إلى تاريخ أبنائها الموارنة الذين سكنوا في هذه البقعة الجغرافية من شمال لبنان، وزرعوا الارض بعرق جبينهم، في الربع الاخير من القرن السابع بحسب رأي العلامة الدويهي، واستقروا في الوادي الذي قدّسوه بوجودهم فعرف بـ«الوادي المقدس».

ذكر الاسقف ابراهيم الحدثي أنّ حصرون كانت مأهولة منذ ما قبل القرن الثالث عشر، واشتهرت بتعبدها عبر التاريخ فبنيت على الايمان والشهادة.

عائلات حصرون تعود بالاصل إلى أربع هي: عواد، السمعاني، حوراني، العفريت. وتفرعت منها العائلات المعروفة اليوم وهي: عواد، معربس، فرح، جبارة، السمعاني، حكيم، السيد، عبدو، مرعب، بو نصار، صوما، شكور، بيت توما، بيت عساف، متى، لابا، نعيم، وشليطا.

أهلها ينتشرون في كل بقاع الأرض من الاميركيتين إلى أفريقيا وأستراليا، إلى حد أنك قلّ ما تزور بلداً إلا وتجد فيه مهاجراً من أصل حصروني. محبتهم للهجرة ليس للابتعاد عن الوطن الام ومسقط الرأس، بل لتحقيق أحلامهم وبناء مستقبلهم، إذ يعود أبناؤها اليها مهما طال الزمن، ويحاولون بناء منازل وقصوراً تؤمن استمرار حياتهم فيها.

يعرف ابن حصرون بإيمانه العميق، ويتقن فن الضيافة والاستقبال، يحب الحياة ويعشق التطور من دون التخلي عن أصالته اللبنانية، ويحافظ على تراثه وامجاده.

عدد سكان حصرون 5 آلاف نسمة، وهو عدد المقيمين فيها صيفاً، ويصبح هذا العدد 2000 نسمة شتاء. تصل إليها من طرق عدة: بيروت ـ شكا ـ حدث الجبة، أو إهدن ـ بشري، أو عن طريق البقاع: دير الاحمر ـ عيناتا الارز فبشري.

تمتاز هذه القرية بكبر مساحتها وتشعباتها، وأسماء أحيائها، فتمتد نحو الاعلى وتلامس الجبل، وتمتد إلى الاسفل وتجاور وادي قنوبين. تشكل الشريان الحيوي الذي يربطها بعاصمة القضاء وجسر عبور إلى أماكن أثرية مهمة منها: بقاعكفرا بلدة القديس شربل، متحف جبران خليل جبران، ومغارة قاديشا وغابة الارز.

موقعها المهم والمشرف على وادي قنوبين جعلها مقصداً لنزلاء الفنادق، خصوصاً أنها على مقربة من مقر الكرسي البطريركي الصيفي في الديمان.

تعرف ببيوتها الحجرية الاثرية وقرميدها الاحمر الذي يزين سطوحها، وهي مقصد للسياح منذ القدم. أول فندق أنشئ فيها كان يعرف بـ«قصر بيت عواد»، ويقال أن الجنرال الفرنسي ديغول نزل فيه ضيفاً. كما عرفت أيضاً بفندق «السمعاني» وفندق «بالاس».

مقاهي الزجاج ما زالت تنتشر في شارعها العام حتى اليوم، تستقطب الرجال الذين يقصدونها للعب الورق والمنقلة وطاولة الزهر، ويتناقلون النراجيل التي تفوح رائحتها إلى الخارج وتصل إلى أنفاس المارة.

الاصطياف

تعتبر حصرون بلدة اصطياف من الدرجة الاولى بسبب مناخها الصحي وجوّها الراقي وموقعها المميز المطل على الوادي، وأكثرية المصطافين فيها من أهالي طرابلس.

يقال ان رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي له ذكريات عزيزة على قلبه في هذه المنطقة، إذ كان يركب دراجته إلى ساحة الديمان ويمارس هوايته المفضلة.

حركة الاصطياف تراجعت اليوم بسبب ظروف الحياة والاحوال الامنية في البلاد. وابن حصرون يؤمّن للزائر كل ما يلزم لراحته.

أول صيدلية فتحت في المنطقة كانت للمرحوم جوزف البستاني الذي كان يعرف بـ«طبيب المنطقة». وللسينما بدايات فيها إذ كان يقصدها الشبان والشابات من قرى القضاء كافة. أما السنترال فما زال موجوداً، إذ كان يؤمّن الاتصال بالعالم الخارجي بآلاته القديمة التي تذكرنا بتقنيات ذاك العصر. محطات الوقود عرفت منذ وجود السيارات التي كانت تلبي حاجات الزوار من الوقود بعد مسافات طويلة للوصول اليها، كما ان الطاحونة القديمة رافقت تاريخ حصرون وأشبعت الالآف ولا تزال كذخيرة تربط الحاضر بالماضي.

تحتفل حصرون بعيد شفيعها القديس لابي، سان جود يوم الاحد الاخير من أيلول كل عام، وهو أحد رسل المسيح ونسيب ليسوع ومريم. صنع عجائب كثيرة حتى عرف بـ«العجائبي»، استشهد في بلاد العجم رشقاً بالسهام وضرباً بالعصي. وهكذا يظهر القديس في إحدى صوره مع هراوة في يده دلالة على انه قتل بها ومات من أجل المسيح. وفي صورة أخرى يظهر حاملاً صورة المسيح على صدره لأنه كان طوال حياته الرسولية صورة عن نسيبه المسيح.

للقديس لابي ثلاثة كنائس تحمل اسمه في شمال لبنان، في بشنين، برسا، وأهمها كنسيته الاثرية في حصرون التي بني القسم الشرقي منها في الجيل الرابع والقسم الغربي في الجيل الثامن سنة 770 طبقاً للتاريخ المحفور في بلاطة على الباب الغربي منها.

كرمت حصرون هذا الشفيع منذ القدم وبنت على اسمه كنيسته الاثرية التي يعود تاريخها إلى العهود الصليبية. ويقال انها بنيت على انقاض هيكل وثني كان قد شيد تخليداً للملك حصرائيم. ويظن البعض أنّ اسم حصرون إنما اشتق من هذا الاسم بالذات. أكرمت حصرون هذا الشفيع فاسمه موجود في كل منزل فيها، وصوره منتشرة في بيوتها، ومزاراته مزروعة بكثرة على طرقاتها. كما أن عدداً من المغتربين والاجانب يقصدون حصرون خصيصاً لزيارة مقامه الاثري.

وفي حصرون أيضاً، إضافة إلى هذه الكنيسة الاثرية، كنيسة أخرى ذات عقد جميل بنيت في أواخر القرن الماضي على اسم السيدة العذراء وشفيع البلدة. كما شيدت في البلدة كنيسة ضخمة على اسم القديسة حنة أم السيدة العذراء.

وفي حصرون الكثير من المزارات التاريخية، منها مزار مار توما الذي لجأ اليه البطريرك تيان إبان الاضطهاد، وكان مقراً لحبساء كثيرين، ومزار على اسم الملاك ميخائيل، وآخر على اسم مار يعقوب المقطع.

هذه المزارات الثلاثة هي في اسفل البلدة وعلى مسافة منها، وهناك مزار على قمة الجبل يحمل اسم مار سمعان العمودي، ومزار شهير عرف بـ«أم العجائب» قرب كنيسة السيدة.

من أشهر خصائص حصرون انها كانت منبع البطاركة والمطارنة والكهنة والرهبان، إذ أعطت ما لا يقل عن أربعة بطاركة، و17 مطراناً. وفي زمن غير بعيد كان في حصرون 42 كاهناً وراهبة، ولم تخل عائلة من كاهن وربما اكثر.

وفي الوقت نفسه لعبت حصرون بفضل مشايخها وأعيانها دوراً مهما وجيهاً ليس فقط على صعيد المنطقة، بل على صعيد الوطن، إذ تولى أبناؤها المناصب الرفيعة بجدارة يشهد لهم التاريخ.

العلوم والمعارف

أما عن العلوم والمعارف، فتكفي الاشارة إلى ان آل السمعاني، خصوصاً العلامة يوسف سمعان السمعاني 1687 ـ 1767 زهرة المدرسة المارونية في روما، وواضع رسوم المجمع اللبناني في الشرق، رفع له تمثال في مسقط رأسه حصرون في 21 تشرين الاول سنة 1928 أيام الاستعمار الفرنسي، تقديراً لأعماله التي طاولت الاصلاحات في الكنيسة المارونية، وآل عواد ومن أبرزهم البطريرك يعقوب عواد 1706 ـ 1733 ، والبطريرك سمعان عواد 1743 ـ 1756 . هاتان العائلتان أعطتا، ليس فقط لحصرون وللبنان، بل للعالمين الشرقي والغربي على السواء، تراثاً أدبياً وفكرياً ودينياً يقر بفضله كل العالم.

وبالإشارة إلى مشروع المسح الثقافي الشامل لتراث الوادي المقدس، سيكون لحصرون الدور المهم كونها تقع على شفير الوادي، وتحيط بالمقر البطريركي الصيفي في الديمان، ومن خلالها سيكون هناك ممرات عدّة ترشد الزائر إلى الوادي المقدس.

عملية المسح ما زالت جارية، وكشفت هذه السنة مغاور عدة، وتتولى العمل رابطة قنوبين للرسالة والتراث بتوجيه البطريرك بشارة بطرس الراعي، وإشراف النائب البطريركي العام على الجبة المطران مارون العمار خلفاً للمطران فرنسيس البيسري، الذي أشرف على الرابطة منذ تأسيسها عام 2004.

البلدية

تلعب بلدية حصرون دوراً مهماً وبارزاً في إعادة الحياة إلى القرية، وإبراز قيمتها التاريخية والحضارية عبر نشاطات عدّة تقوم بها، ومنها العشاء القروي السنوي خلال فصل الصيف لإحياء التراث من خلال تقديم مأكولات لبنانية قروية من صنع سيدات القرية، إضافة إلى احتفالات «تعشّى وتمشّى» التي تقام في الصيف مرات عدة، إذ تعج القرية بأهلها المقيم والمغترب، فيقفل الشارع الرئيسي فيها وسط أجواء موسيقية إحياءً للفلكلور اللبناني.

وخلال فترة عيدَي الميلاد ورأس السنة تقيم البلدية الاحتفالات وتقدّم الهدايا للاطفال، وتشعر السكان انهم ليسوا متروكين في فصل الشتاء.

تشجع البلدية النشاطات الرياضية صيفاً، وتقيم على نفقتها الخاصة مباريات على أرض تستأجرها بغية تشجيع أبنائها على ممارسة الرياضة والالتصاق بأرضهم. وتسعى إلى تأمين ملعب رياضي يتيح لجيل الشباب ممارسة رياضاتهم والتمتع بمناظر بلدتهم الساحرة.

وتهتم خلال فصل الشتاء بإزالة الثلوج تسهيلاً لحركة المرور، ولا يقتصر على طرقاتها العامة بل الداخلية أيضاً، وهي تجند فريقاً خاصاً لهذا الغرض بغية تأمين الراحة للسكان القاطنين فيها شتاء. وتعمل على تقديم المساعدات للمدارس الموجودة فيها وهي أربع: الانطونية، اللعازرية، والمدرسة الرسمية، والمهنية، وتسعى إلى تأمين مادة المازوت للتدفئة وغيرها من الخدمات اللازمة لتأمين الحضور التربوي في القرية والمحافظة عليه.

أما شرطة البلدية، فهي العين الساهرة ليلاً ونهاراً لتأمين الراحة للمواطنين عبر تسهيل حركة المرور، خصوصاً في المناسبات والاعياد ونهاية عطلة الاسبوع.

أما حضور الدولة فيها فهو معزز، حيث هناك مخفر للدرك قديم العهد، يسهّل حياة الناس بالتعاون مع المجلس البلدي.

أنشأت البلدية في حصرون حديقتين، الاولى قرب مزار مار لابا، والثانية عند نهر المشراوي، وتحتويان على أماكن للراحة، وتضم كل واحدة منشية ومشاتل الأزهار. كما أنشأت البلدية عيادة للاسنان في المستوصف الخيري للبلدة المدعوم من البلدية، وذلك من التبرعات التي قدمها 12 شاباً من حصرون مقيمين في أستراليا لضمّ مستوصف البلدة إلى الرعاية الصحية في وزارة الصحة وذلك سنة 2010.

من ناحية ثانية، تعدّ البلدية دراسة جديدة لبحيرة نبع رأس النبع للمحافظة عليه بعد ان اظهرت الدراسات الجيولوجية أنه بحاجة إلى اعادة تأهيل، وجهزت الدراسات للمباشرة في العمل بانتظار مصادر التمويل.

الوكالة الوطنية للإعلام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى