نهاية الأردوغانية طريق لعودة القوميين اليمينيين إلى السلطة

ترجمة وتحليل: ليلى زيدان عبد الخالق

مسكين أردوغان، إذ يبدو أن اللعنات تلاحقه بينما هو منهمك في «ترقيع» تداعيات خطواته، أرض تركيا تتأرجح تحت قدميه، وشعبيته آخذة في الاضمحلال، بينما يصارع الهزيمة كالمحتضر الذي يقارع الموت.


انغمس في المؤامرة الكبرى ضد سورية حتى أذنيه، ظنّاً منه أن تتويجه سلطاناً عثمانياً جديداً على المنطقة أضحى قاب قوسين أو أدنى، وأن سورية ستهزم، وإيران ستُكسر شوكتها، فإذ به يفاجأ بالصمود المدوّي، الذي كسر شوكة أميركا وجرّها إلى طاولة المفاوضات مذعنةً، كما جرّها إلى الحوار مع إيران منهزمةً.

مسكين أردوغان كيف يتخبّط كالغريق في وحول أسقط نفسه فيها، حتّى داخل بلاده، لم يستطع أن يأتي بالحلول الناجعة حيال الأزمة المالية التي ألمّت ببلاده، فكان عليه أن يتعايش مع تأثيرات رفع سعر الفائدة وقضية الفساد السياسية التي صنعها بنفسه.

كما عليه أن يجد حلّاً لأزمته مع الغولانيين، التوّاقين لعزله عن العرش التركي، خصوصاً بعد اتّساع الهوّة بين الفريقين في الصيف الماضي، عندما احتلّ المعارضون «ميدان غازي». وعندما انتقدت وسائل الإعلام التابعة لغولان سياسة أردوغان مقارنة إياه بالفرعون.

في هذا التقرير، ترجمة لمقالين وردا في «Foreign affairs»، وفيهما وصف دقيق للأزمة التي يمرّ بها رجب الطيب أردوغان، والتي لا يعرف كيف يخرج منها، فهل تشهد تركيا في العام الحالي، نهاية الحالة الأردوغانية؟!

كتب بيتر زالوسكي:

لا يحبّذ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان فكرة رفع أسعار الفائدة، وهو مصرٌّ على استمرار تسليف البنك المركزي في بلاده قروضاً من دون فائدة. إنه كمسلم متديّنٍ يتمسّك بتعاليم الدين الإسلامي الذي يحرّم الربا. وقد ذهب بعيداً في كثير من الأحيان ـ حدّ الاعتراض على مبدأ أساس من مبادئ الاقتصاد، مدّعياً أنّ القروض عالية الفائدة تسبّب التضخّم. حتى أنّه ألقى جزءاً من تبعات مشكلاته السياسية ـ بما فيها احتجاجات الصيف الماضي الشعبية وفضائح الفساد المستمرة منذ بداية هذا الشتاء ـ على تحالف غير جدّي مع المموّلين الدوليين، والحكومات الأجنبية، والإعلام الأجنبي، وأطلق على كل هذا صفة «مجموعة ضغط سعر الفائدة».

كان من الممكن استيعاب إيمان أردوغان بأهمية تسليف قروض قليلة الفائدة، لو لم يكن لبعض الطرق تأثير على السياسة النقدية في تركيا. وحتى أسابيع قليلة مضت، زاد البنك المركزي التركي الفوائد ـ وعلى مضض ـ بنسبة نصف في المئة لمرتين أو ثلاث على الأكثر وقدّر هذا على أنّه نسبة قليلة جدّاً، بل ومتأخرة جدّاً لتفادي الزحف الهائل للتضخم. وما لبثت هذه الخطوة، أن استُتبعت بتعهّد لرفع أسعار الفائدة في المستقبل القريب. وكانت هذه إشارة خطيرة بالنسبة إلى المراقبين من أن يكون البنك قد صادر استقلالية هذه الخطوة، ليورّط أردوغان و«عقيدته» في مسألة الفوائد وإصراره ـ في المقابل ـ على استمرار النمو الاقتصادي.

كتب الخبير الاقتصادي في البنك المركزي «تيم آش» رسالة إلى الخبراء المشرفين على عملية رفع سعر الفائدة التي حصلت في آب الفائت، والتي جذبت الانتباه بشكل كبير إلى كيفية مساعدة الحكومة في تحقيق 3 إلى 4 في المئة من النمو المستهدف، أكثر من الاهتمام بالحفاظ على قوة الليرة التركية وإبقاء معدّلات التضخم على ما هي عليه.

توقعات أهل المال

وقد كان مساعداً لعدد من مراقبي الأسواق المالية، أنه في ليلة الثامن والعشرين من كانون الثاني، ورغم إصرار أردوغان على العكس، قام البنك المركزي برفع نسبة الفوائد على أسعار التسليف حوالى 3 .

كما لو أنه ما من خيار آخر مُتاح… فتوقعات محافظ البنك المركزي «إيرديم باسجي» قضت بأن ينتهي عام 2014 أفضل مما انتهى عليه عام 2013، إذ بلغ سعر صرف الليرة 1.92 لكل دولار أميركي ـ ورغم المليارات التي صُرفت ـ فسعر الصرف هو 2.15 منذ بداية عام 2014. وما لبث أن انخفض إلى أبعد من ذلك في الأسابيع التي تلَت. ويبدو أن هذه ليست سوى البداية.

شكّل سعر رفع الفائدة برَكةً بالنسبة إلى أردوغان. قد يكون أنقذ سمعة البنك المركزي وثبّت سعر صرف الليرة، لكنه أيضاً وضع نَماء العملة السياسية في خطر. وبعد يوم واحد فقط على إعلان حالة الطوارئ في البنك، قامت المنقّحة «جي بي مورغان تشايس» بوضع توقعات النمو الاقتصادي لتركيا لعام 2014 والتي جاءت بين 1.9 و2.5 . وما لبثت «ميريل لينش» أن خفضت من توقعاتها 3.5 إلى 1.7 . وفي 7 شباط، خفّضتStandard Poor s أيضاً من توقعاتها على التصنيفات التركية لتصبح سلبية… ما يُنبئ بمخاطر التباطؤ الاقتصادي الحادّ.

غير أن تركيا حققت نجاحاً اقتصادياً لافتاً على مدى العِقد الماضي، ولأسباب جيدة. فقد نما الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 5 سنوياً وزاد حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل ملحوظ. ففي التسعينات كان نصف الشعب التركي فقط يصنّف في خانة الطبقة الوسطى، أما اليوم فبلغ حجم هذه الطبقة 60 ، انخفضت نسبة التضخّم وتمتعت الخدمات المصرفية بليونة لافتة.

السباق إلى الأسواق الناشئة

أغرق برنامج الاحتياطي الفدرالي الأميركي الأسواق المالية العالمية بعشرات بلايين الدولارات شهرياً، ما بشّر بحقبة جديدة للاقتصاد التركي فبعد شراء السندات من البنك الفدرالي عام 2008، نعِمَ المستثمرون بتدفّق النقد وحققوا عائدات أكبر بكثير ممّا كان يمكن أن يحققوه في الولايات المتحدة، وهرعوا إلى الأسواق الناشئة كتلك التركية. وبدعمٍ من الاستثمارات قصيرة الأجل في الأوراق النقدية التركية، وانخفاض في أسعار الفوائد على القروض، وزيادة في الطلب على السلع الاستهلاكية، أطلق الاقتصاد التركي لنفسه العنان… نما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9 في عامي 2010 و2011، مقارنة مع الصين، إذ انخفض 2.2 في 2012 و3.6 في السنة الماضية.

لكن يبدو أنّ هذه الحقبة قد ذهبت إلى غير رجعة. فبعدما قرّر البنك الفدرالي إيقاف تدفق الأموال، وترك الأسواق المالية في حالة جفاف وقحل ائتمانيّ، وبعد أن تضخّم العجز في الحساب الجاري إلى نحو 60 مليار دولار، أو 7 من الناتج المحلي الإجمالي، واجه رجال الأعمال والمستثمرون – خصوصاً أولئك الذين أخذوا قروضاً بالعملات الأجنبية- أطناناً من الديون، فتجاوز حجم القروض المصرفية عام 2013، تريليون ليرة ما يعادل 450 تريليون دولار ، أي ضعف عام 2010، حيث بلغ معدل الادّخار المحلي مستواه الأدنى منذ ثلاثين عاماً.

علاقات مشبوهة

هناك مخاوف متزايدة من تبذير الثروة الجديدة. بعد أن أُطلِقت تحقيقات الفساد في كانون الأول الماضي، والتي تمخّضت عن وجود أدلّة حول رشاوى، ومناقصات مزوّرة، فضلاً عن صلاتٍ مشبوهة بين أردوغان وحزب العدالة والتنمية وصناعة البناء والتشييد في تركيا. علماً أنّ المشهد في المدن التركية بقي يحقق تغيّراً سريعاً المجمّعات السكنية، أبراج المكاتب، مراكز التسوّق، استمرار بناء مشاريع البنية التحتية الحكومية الهائلة ما أثار الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام.

بقيت الإصلاحات الهيكلية متخلّفة في الوقت عينه. فلطالما لعب النموّ السكاني دوراً إيجابياً كميزة اقتصادية في البلاد، غير أن هذا الجانب أُهمِل في الفترة الأخيرة. ففي مسح أُجري عام 2012، احتلّت تركيا المرتبة الرابعة والأربعين بين خمس وستين دولة في الرياضيات والقراءة والعلوم والمهارات للأطفال الذين أتموا الخامسة عشرة من عمرهم. ولعلّ أكبر مؤشر لتأخر معدّلات النموّ المستدامة هو انخفاض يُرثى له في معدّل مشاركة المرأة في العمل 29 .

هدف؟!

يحذّر تقرير لصندوق النقد الدولي صدر أخيراً، أن تركيا ستجد صعوبة كبيرة في تحقيق نموّ يتجاوز الثلاثة في المئة سنوياً، فيما لو لم تقم بوضع إصلاحات جديدة، في مجال التعليم والعمل وحقوق المرأة، فضلاً عن التحسينات في مناخ الأعمال، والاستثمار في مجالات التكنولوجيا الفائقة، ناهيك عن تحقيق هدف أردوغان بأن يصبح الاقتصاد التركي واحداً من أكبر عشرة اقتصادات عالمية بحلول عام 2023. ويؤكد هذا التقرير أنه لا يمكن لأنموذج تركيا الاقتصادي القائم على المستهلك، أن يحافظ على معدلات نموّ عالية… فيما تناولت دراسة أخرى تأثير معدّلات انخفاض الادّخار والاستثمار، محدودية الصادرات، عدم المساواة بين الجنسين والاستخدام غير الفعال لـ«العائد الديموغرافي».

وإذا ما أعدنا النظر في مرآة سنوات الطفرة التي مضت، سنلاحظ أنّ تركيا قد أهدرت فرصة ذهبية لمعالجة قضايا كهذه، يقول «أوغور جورسيس»، كاتب في الصفحة المالية في صحيفة «راديكال» التركية: «كان لدى تركيا فرصة لإدارة أسواقها الناشئة والاهتمام بحدائقها المنزلية الخاصة، وتنفيذ بعض الإصلاحات فيها»… ويضيف: «فقدنا كل الفرص التي كانت متاحة لنا في السنوات الخمس الماضية، وقد نكون تأخرنا جداً الآن».

وعلى المدى القصير، قد يواجه أردوغان وحزب العدالة والتنمية مرحلة صعبة في نهاية حقبة النمو المرتفع، وارتفاع أسعار الفائدة الذي بلغ أوجَه في الثامن والعشرين من كانون الثاني الماضي، إذ يبدو واضحاً أنّ المشهد الاقتصادي بدأ يتأرجح تحت أقدام أردوغان، وليس جليّاً إلى أيّ مدى سيستطيع الصمود.

لن يشعر الجمهور التركي بهذا الانهيار الاقتصادي قبل مرور أشهر عديدة، ما يعني أنّ حزب العدالة والتنمية لا يزال أمامه متسع من الوقت لتُصلح المواقف قبل انتخابات الثلاثين من آذار، ما يبشّر بالخير بالنسبة إلى أردوغان إذا ما قرّر ـ وكما هو متوقع- التنافس في انتخابات الصيف الرئاسية.

الانحدار

فضيحة الفساد ورّطت أربعة من وزرائه، وما لبثت أن تآكلت بفعل دعم رئيس الوزراء لها. وفي دراسة أُجريت في منتصف كانون الثاني، أظهرت نتائجها أن شعبيته انخفضت إلى 39.4 ، بعد أن كانت 48.1 قبل شهر واحد فقط، و59.1 عام 2012. وقد يساهم التباطؤ الاقتصادي، كما الأضرار الناجمة عن فضيحة الفساد، في إعاقة طموحاته السياسية. ويقول «عساف سافاس آكات»، البروفسور في جامعة «بلجي» في اسطنبول، أنّ «نموّاً اقتصادياً معقولاً وتأمين فرص عمل وأموراً أخرى مشابهة، قد تؤدي بالشعب إلى نسيان قضية الفساد وما نتج منها».

على أردوغان أن يتعايش مع تأثيرات رفع سعر الفائدة وقضية الفساد السياسية التي صنعها بنفسه. وبعد اللجوء إلى تكتيكات الذراع القوية ونظريات المؤامرة، وتطهير البيروقراطية بهدف نزع فتيل الفساد والتحقيقات الجارية فيه، وضع القائد التركي إرثه السياسي – الكبير والثابت- على المحك.

وبغضّ النظر عن أنّ أسباباً كتوقعات النمو وارتفاع أسعار الفائدة والقوة النسبية لليرة، كافيةٌ لتهديد المستثمرين وتخويهم، أقلّه بالنسبة إلى «محرّم يلماز» رئيس جمعية «كبار رجال الأعمال في تركيا»، الذي صرّح في خطاب له في 23 كانون الثاني أن تركيا هي بلد «لا يلتفت إلى سيادة القانون، ولا تحتكم آلياته القضائية إلى معايير الاتحاد الأوروبي، إذ تلوّثت نزاهة المؤسسات التنظيمية واستقلاليتها، وتعاني الشركات من ضغط الضرائب، ويجري بانتظام تغيير التشريعات المتعلقة بالمناقصات». ثم أضاف في التصريح نفسه أنه: «لا يمكن لرأس المال الأجنبي أن يأتي إلى هذا البلد»!!!

صرّح أردوغان في اليوم التالي: «كلمات يلماز بلغت حدّ الخيانة».

أردوغان يخسر تركيا

وكتب هاليل كارافيلي:

نفضت الدولة التركية يديها قبل نحو عِقدٍ من الزمن، من الحرس القديم في البلاد ومن القوميين اليمينيين المعروفين باسم «الكماليين»، عندما فاز الإسلاميون المحافظون ـ بدعم من الليبراليين- في الانتخابات، قد يتكرر هذا ثانية. فتحالف المحافظين – المؤلف من رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله غولان، رجل الدين المسلم الذي يقود جماعته من المنفى الاختياري في الولايات المتحدة الأميركية ـ قد انفجر.

في خضم كل هذه المعطيات، يستعدّ الجيش لإقحام نفسه في السياسة مرة أخرى.

بدأ هذا كله عام 2011 عندما قرّر أردوغان تطهير معظم مناصري غولان من حزب العدالة والتنمية قبل انتخابات حزيران المقبلة. فهو لم يعُد راغباً بمشاركة السلطة مع أحد، كما إنه أبعد معظم اللبيراليين ومناصري الرئيس المعتدل عبد الله غول. واستتبع ذلك بإصلاحات في الإدارات العامة أتت كذريعة لعدم السماح للمعارضين الغولانيين بالمشاركة في مواقع البيروقراطية الرئيسة.

ردود فعل الغولانيين جاءت في شباط من عام 2012، عندما أصرّ النائب العام، على استدعاء «خاقان فيدان» رئيس الاستخبارات التركية والشخصية الأقرب لأردوغان، لاستجوابه حول دوره في المفاوضات السرية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني.

عارض الغولانيون إجراء محادثات مع الحركة الكردية المعروفة، وأبدوا امتعاضهم من الحصانة التي وضعتها رئاسة الوزراء التركية بتصرف بعض الشخصيات، فأرادوا عرقلة هذه القرارات ـ وتوريط رئيس الوزراء نفسه ـ بتهمة الخيانة.

كباش

اتّسعت الهوّة بين الفريقين في الصيف الماضي، عندما احتلّ المعارضون «ميدان غازي». وانتقدت وسائل الإعلام التابعة لغولان سياسة أردوغان مقارنة إياه بالفرعون. وكما هو معروف عن تصرفات الحكومة التركية، فقد لطّخت سمعة الغولانيين وأعلنت في نهاية 2013 أنها قد تغلق المدارس الغولانية، بهدف حرمان هذه الحركة من المورد الرئيس للإيرادات والمتطوعين. قامت الحركة الغولانية ـ بسبب عدم استعدادها لإجراءات كهذه ـ بدعم التحقيقات الجارية في قضية الفساد، التي كان يتولاها المدّعي العام ضدّ أقرباء عدد من الوزراء ورجال الأعمال المقربين من الحكومة. ولمزيد من الاحتياطات أقدم أردوغان على طرد أيّ مشتبه به غولانيّ الانتماء من المراكز الحساسة في الإدارات العامة، كذلك في القضاء والشرطة.

يصرّ غولان على افتقاره أيّ قوة في المكاتب الحكومية، وعلى أن اهتمامه ينصبّ في مصلحة شعبه فقط. لكنه انتقد في خطابه الناري الاستثنائي في كانون الأول الماضي، أولئك الذين «يُعمون أبصارهم عن اللّصوص الحقيقيين بينما يعاقبون من يستدعون هؤلاء اللصوص»، متوسلاً الله أن «يحرق منازلهم، ويدمّر خلاياهم، ويكسر اتفاقياتهم».

لا ينكر الغولانيون أنفسهم وجود شبكات غير رسمية من المحبّين والمتحمسين المنتشرين في الدولة.

هذه هي حقيقة الصفقة بين الغولانيين وحزب العدالة والتنمية منذ البداية: في مقابل دعم، الغولانيين الحزب وتصويتهم له وتأييده في وسائل إعلامه، تحصل الحركة الغولانية على موظفين لها في إدارات الدولة الرسمية. وقد احتاج الحزب – في الحقيقة- إلى الكادرات الغولانية المثقفة لإدراة أمور تركيا، خصوصاً في الشرطة والقضاء. ومنذ عام 2008، ساعد المتعاطفون مع الغولانيين في الشرطة والادّعاء في زجّ المئات من معارضي النظام في غياهب السجون.

الآن، ومع فكّ هذا التحالف بين حزب العدالة والتنمية والغولانيين، يتهم أردوغان حلفاءه القدامى بإنشاء دولة مستقلة موازية لدولته، تعارض سلطة الحكومة المنتخبة وتحضّر للانقلاب عليها. وأحدث ما قام به في إطار قمع ما يسميه بـ«الدولة المحاذية»، هو محاولته الشهر الفائت اجتراح قانون من شأنه إخضاع السلطة القانونية للسلطة القضائية، بهدف منع أعدائه من إطلاق المزيد من التحقيقات. هذه الإجراءات تلائم أردوغان الى حدّ بعيد، فبعد أن تمّ استدعاء ابنه للمثول أمام القضاء نهاية السنة الفائتة، لم تسلّم الشرطة ـ وبتعليمات من الحكومة- أمر الاستدعاء، بل أقيل المدّعي العام. وما لبث أن تمّ التخلي عن أكثر من ألفي عنصر من الشرطة وقرابة مئة من المدّعين العامين منذ كانون الأول الماضي.

جدال بيزنطي!

يبدو الجدال القائم بين أردوغان والغولانيين كالجدال البيزنطي. لكن علينا أن نتذكر أنها هذه هي الأرض التي انبثق منها هذا المصطلح. ويتبع هذا النزاع ـ في الواقع- النمط التاريخي. فلطالما خشي السلاطين العثمانيون من سيطرة القوى المستقلة كالتجمعات الدينية. لا سيما السلطان محمد الثاني، فاتح القسطنطينية، الذي كان قمعياً ومتعسّفاً فقد قلّص الحريات الاقتصادية بهدف إضعاف الأخويات الدينية. وقد شكل اضطهاد الأقليات الطائفية هاجساً لدى كمال اتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، بهدف التأكيد على استحالة إمكان حكم للدولة. حتى إن رئيس الوزراء التركي داود أوغلو دافع عن علميات التطهير تلك التي جرت عبر التاريخ. فهو يعتقد بأن تقاليد دولته التركية، تتضمن ـ في ما تتضمنه- ممارسة «التضحية بأبناء الدولة» للقضاء على منافسين محتملين للعرش!!!

مجازفة خطيرة

يأمل القياديون الإعلاميون في حزب العدالة والتنمية إقامة تحالفات جديدة مع الجيش، عدوّ الحزب القديم، للمساعدة في قمع المعارضين. لكن على أردوغان أن يتذكر، أنّ مجازفة كهذه قد لا تسلم. فلا يجوز لأردوغان أن ينسى ما حصل عام 1971 عندما استعان رئيس الوزراء المحافظ آنذاك، سليمان ديميريل بالجيش لقمع اليساريين، ما أدّى به إلى الخروج من السلطة. طلب أردوغان من وزارة العدل إعادة محاكمة موظفي الجيش المسجونين الذين قد يُبرّؤون هكذا، بكل بساطة.

يبدو أن هذا هو ما تحتاج إليه تركيا… «إعادة الأمن والنظام» إلى الدولة. وفي هذا الإطار كتب «نجدت أوزيل»، رئيس الجمعية العامة، مؤكداً أن تفعيل النظام البرلماني هو «الأولوية الرئيسة» للقوات المسلّحة، مشدّداً على «أن الجيش عاقدٌ العزم على القيام بكل هذا، لأننا جميعاً نريد السلام في بلادنا». لكن ماذا لو كان الأمان في البلاد معدوماً؟ يقول: «إن التدخلات السابقة للجيش تؤكد إصراره على ضمان الحرية والديمقراطية».

المجازفة الوحيدة ليست في عودة الجيش فقط، هناك جيش جديد ينبغي أن يؤخذ وجوده في الحسبان. بما أنّ الإسلاميين المحافظين تمكنوا من السيطرة على جهاز دولة وجيش ضعيفين في 2007 و2008، وبما أن عمليات التطهير التي كانت تحصل سنوياً، قد أُوقفت، نستطيع من هنا أن نخمّن بأن تعاطف الجيش مع الغولانيين قد ازداد، فرسالة غولان التي تناشد الضباط – الذين يتحدّرون غالباً من عائلات محافظة – الجمع بين الإسلاموية والوطنية التركية. أما الاعتقالات الجماعية لكبار الجنرالات، والتي استنزفت صفوف الجيش العليا، فقد أعطت الفرصة للضباط الشباب بتحقيق وصول وتقدم سريعين. ومما لا شك فيه، أن النفوذ الغولاني داخل المؤسسة العسكرية يزداد قوة، إذ يأمل أردوغان اليوم، أن تنجح طبقة كبار الضباط الحالية بإبقاء الغولانيين بين الصفوف المتدنية في عملية الاختيار والتعيين. لكن عليه أن يحذر من حركة ارتداية عليه من قبل صغار الضباط الذين لا يخضعون لأمرته… تماماً كما حصل عام 1960، عندما أُطيح بحكم رئيس الوزراء الدكتاتوري «عدنان مندريس».

لعنة الفساد

جرّدت فضيحة الفساد في حكومة أردوغان حزب العدالة والتنمية من أيّ مصداقية باقية. والحرب الشعواء قد حطمت السمعة الإدارية لهذه الحكومة. كذلك خسر الغولانيون رأس مالهم الأخلاقي. فلطالما تحمّلت هذه الحركة الآلام والمآسي وظهرت بمظهر القوة التي تتخطى أمور السياسة التافهة. لكن الكشف عن مدى قوتها داخل الدولة يقوّض هذه الرؤية. زعزعت هذه الحركة حكم أردوغان لكن هذا لم يجعلها تسلم من زعزعة نفسها. فمناوراتهم لا توحي بالثقة لدى جميع الأتراك. وفي استطلاع حديث العهد، تبيّن أن 6 فقط من الشعب التركي يدعم الغولانيين، بينما يؤيد الحزب الحاكم 28.5 ، ويعتقد 45 أن كلا الطرفين ليسا على حق.

التحالفات تروح وتجيء، لكن يبدو أنّ الاستبداد هو سمة أبدية وُصِمت بها تركيا.

فمن المرجح أن يؤدي فشل الإسلاميين الأتراك في إدارة امور الدولة إلى عودة التقليديين إلى الحكم، أي القوميين اليمينيين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة في المجتمع… إنها العودة إلى السلطة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى