أنطون سعاده… ما أحوجنا إلى أمثالك في هذا الزمن

زياد الحاج

ما عسانا نقول في الأول من آذار، ذكرى مولد أنطون سعاده، فالرجل غنيّ عن التعريف. لن نردّد أقواله، ولن نقول في مديحه أكثر مما قيل عبر السنين. يكفي النظر إلى واقع الأمة، إلى التقسيم الذي أضحى تفتيتاً، إلى الوطن الذي بات مُباحاً، وإلى الشعب المنقسم على نفسه فرقاً وأحزاباً لا يعالج أيٌّ منها بلاءنا الأساسي لا بل يزيده سوءاً ومأساوية مهما علا الصوت نافياً ومندّداً كي ندرك حاجتنا الماسّة إلى تيار جامع وموحّد الأهداف كالذي أنشأه سعاده. كان من أوائل الذين حذّروا من خطر الحركة الصهيونية، لا على فلسطين فحسب بل على الأمة كلّها والعالم العربي. أدرك جيداً السبب الأساسي وراء إنشاء الصهيونية، ولم يكترث للحجج الإيديولوجية المخادعة التي صاغها الصهاينة في مؤتمراتهم وألبسوها لحركتهم الاستعمارية الخبيثة، وكدّوا يستعطفون الدول والشعوب لتأييدهم. قال إنّ «إسرائيل» وُلدت في رحمٍ من النفط، وحذّر من سلاح النفط الذي لم يكن قد استُعمل بعد. أدرك أنّ «إسرائيل» قبلة القوى الاستعمارية في العالم، وإنما هي أداة للزعزعة والتفتيت لشغل الأنظار عن الاستغلال ونهب ثروات الأمة. آمن بأنّ التحرير يبدأ بالإنسان، وبأنّ العقول المستعمَرة لا تحرّر أرضاً ولا تبني دولةً موحدة قوية، فأنشأ حزباً لا يعترف لأي شخصية أو هيئة غير سورية بحق وضع مثلها العليا موضع مثل الأمة السورية العليا، على حدّ قوله. أنشأ الحزب على أسس علمية، بحث في نشوء الأمم، وفي العوامل التي تصوغ شخصية المجتمعات، وفي التفاعل الفريد بين القوم والأرض التي يسكنونها، وبلور نظرية قومية هي في الواقع نقيض الأطروحة النازية. نقول ذلك لدرء الاتهامات التي وُجّهت عبر السنين إلى الحزب ومؤسسه بالتقارب الفكري والتنظيمي مع الحركتين النازية والفاشية في أوروبا. فالنظرية القومية -الاجتماعية التي طرحها سعاده ترتكز في الأساس على التفاعل والاختلاط بين السلالات والإثنيات على مرّ التاريخ في أرض واحدة، وإنّ ذلك الأمر يعني تشكّل القومية والثقافة على أساس اجتماعيّ حيويّ، وهو النقيض التام للنظرية النازية العنصرية التي تدعو إلى بناء المجتمع على أساس عرقيّ. أراد أن ينشئ حزباً يعكس التجربة السورية الفريدة، ويمثّل رغبات الشعب السوري الفريدة هي الأخرى، فوضع مبادئ تعالج مشاكل الأمة بشكل خاص. هاجم الرأسمالية بما تمثّله في بلادنا، من إقطاع وبورجوازية متحالفين تاريخياً مع المستعمِر والمحتلّ، وهاجم السلطات الدينية التي لا تتورّع عن تعميق الشرخ بين الأديان والطوائف، والتي لا تساهم إلا في زيادة العصبيات وحرف النظر عن قضايا الشعب الموحّدة والمصيرية لمصلحة قوى الاستغلال والسرقة والفساد. كان سعاده راديكالياً، لم يهادن أحداً، لم تردعه قوة أعدائه ونفوذهم عن إعلاء الصوت والتشهير بهم بالحكومات المتخاذلة والعميلة في كيانات الأمة، وبالجهات الدينية المنافقة، وبالاستعمار وصنيعته الصهيونية، وكذلك بالحركات التي وقفت ضدّه، من أحزاب يمينية ارتضت التقسيم الذي فرضه الاستعمار، لا بل أشادت به لأسباب طائفية بغيضة ومصالح رخيصة أمام مصلحة الأمة.


ولنعاين واقعنا اليوم. ما الذي يجري في العراق؟ في سورية وفلسطين ولبنان؟ بمَ أتى «الربيع العربي» على ليبيا ومصر وتونس والبحرين؟ ما نراه في تلك الدول ليس إلاّ هجمة نيوكولونيالية، تغذّي معارضات مرتهنة في الداخل، وتثير نزعات مذهبية قاتلة، وتسلّح وتموّل، عبر أنظمة النفط المهترئة، مجموعات إجرامية منظّمة لا هدف لها سوى الترهيب ونشر العنف. هل محمّد مرسي أو حكم العسكر كان هدف الثورة المصرية؟ هل «الائتلاف الوطني السوري» وطنيّ بالفعل، أم هو نكتة سمجة هي بالأحرى خنجرٌ يغرز في صدر الشعب السوري، ونسخة ناعمة لمن يقاتل فعلاً في الميدان السوري ضدّ الجيش والدولة؟ هل الدولة الإسلامية في العراق والشام، و«جبهة النصرة»، وأخواتهما ذات الأسماء الملطّفة، إلا مجموعات إرهابية من الهمجيّين السوداويّين، عشاق القتل الذين يحلمون بدويلات أفضل ما يقال فيها إنّها دموية؟ هذا ما حذّر منه سعاده، وهذا ما استشرفه في ذلك الزمن، فدعا إلى فصل الدين عن الدولة وإزالة الحواجز بين الطوائف وعدم الانصراف إلى ما وراء الوجود، وإلى إلغاء الإقطاع وإعداد جيش قويّ يقرّر مصير الأمّة والوطن. أمّا العالم كلّه اليوم، بما في ذلك الأحزاب الطائفية على اختلافها، فيعزّز العصبيات والاستبداد، وإضعاف الجيوش الوطنية وحركات المقاومة كرمى لعيون الاستعمار والكيان الصهيونيّ. هناك في بلادنا من يحوّل الصراع السياسي بين مشروعين، أحدهما تحرّريّ والآخر استعماريّ، إلى صراع طائفيّ سنيّ- شيعيّ أو إسلاميّ- مسيحيّ، ويدعم القتلة والخلايا الإرهابية وشيوخ الفتنة الذين لا يعمّمون سوى الدمار، ويجنّبهم المحاكمات والعدالة. هناك في بلادنا من يبرّر الإجرام الدائر في سورية، ومحاصرة شعبنا الفلسطيني في المخيمات، واستهداف المقاومة في لبنان، لا بل هناك من يبرّر لـ«إسرائيل» قصفها وخرقها الفاضح لسيادات الدول، وهناك من لا تصدر عنه كلمة إدانة واحدة. هؤلاء هم يهود الداخل والبلاء. أما هالنا كلّ هذا الألم بعد؟ لعلّنا نتّعظ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى