في مأتم صبحي… وحدها الزوابع لا تستكين

الياس عشي

في مناسبة وداع لأحد الرفقاء، يقول صبحي:

«في زحمة الموت كلُّ شيء يهدأ… وحدها الزوابع لا تستكين، فمن أين نبدأ؟

وجموع المحبين تأتي لوداعك…

نودّعك اليوم، وأبناء الحياة لا ينتهون بمأتم…

نودّعك ونحن قوم ما تعوّدنا البكاء، بل الاعتزاز بتاريخنا وجراحنا لأنّها جراح عزاء».

اسمح لي يا حضرة الأمين صبحي أن تكون كلماتك هذه، وقد قلتَها ذات مرّة في مأتم أحد الرفقاء، فاتحة لرثائي لك في هذا اليوم الحزين.

يوم قرأتها قلت لمن يحيط بي:

إنّها الأجمل بين كلّ ما قرأته من كلمات، ولم يخطئ ذلك الأعرابي عندما سئل عن أفضل أشعار العرب، فأجاب: الرثاء… لأننا نقوله وقلوبنا محترقة.

واليوم أقرأ ما قلتَه حرفاً حرفاً، فاصلةً فاصلة، جملةً جملة، ومشهداً وراء مشهد، وأبكي، وأتساءل: هل كان صبحي في هذا الكلام اللافت والرائع يستشرف مأتمه هو بين أعمدة بعلبك التي لا تموت الآلهة فيها؟

بلى… بلى… هذا ما فعله الأمين صبحي، فالقوميون والمواطنون والأصدقاء تدفّقوا كالسيل من كلّ مكان، وشاركوا أهل بعلبك في وداع ابنهم الذي كرّس حياته من أجل قضيّة تساوي وجوده.

بلى يا صبحي، أنت قلتها: «كان كلّ شيء هادئاً في زحمة الموت، ووحدها الزوابع لا تستكين». كانت الزوابع مرفوعة فوق الهامات… كانت تلوّح للآلهة ونحيبُها يعلو كلّ الأصوات. كادت أن تحجب ضوء الشمس لولا انحناؤها أمام نعشك في لحظة مرورك تحت ظلالها يا حضرة العميد.

بلى يا صبحي، تماماً كما قلت: «جميع المحبين أتوا لوداعك». وجميعهم كانوا يردّدون أن صبحي من أبناء الحياة «وأبناء الحياة لا ينتهون بمأتم».

وأنّى لك أن تنتهي يا رفيقي بمأتم وألوف الأشبال والطلبة قد شاركتهم، لخمسة عشر عاماً مخيّماتهم، ودرّبتهم وقاسمتهم سهراتهم، ولعبت معهم، وأكلت من صحونهم، وأعددتهم ليكونوا من الأجيال التي راهن عليها سعاده. وهذا ما أكده الأمين لبيب ناصيف في النبذة الموجزة عن حياتك عندما قال: «كان الأمين صبحي كتلة من نشاط لا يعرف السكينة، دائم الحركة، يتفقد الفروع في لبنان والشام، يقيم مع الأشبال في مخيّماتهم، ويقاسمهم الطعام والنوم والسهرات، ينشد ويغني معهم، ويرافقهم بالرقص وحياة المخيم». ويضيف: «نسجّل للتاريخ أن عمدة التربية والشباب شهدت طيلة تولّي الرفيق، والأمين لاحقاً، صبحي ياغي لمسؤوليتها، نشاطاً مميّزاً عبر مئات من الدورات التي أقيمت للمفوّضين والأشبال».

شيء واحد خالفك به القوميون والأصدقاء، رفضوا أن يودّعوك بصمت، فبكوا، وعلا نحيبهم، ولم يجدوا حرجاً في أن يؤاخوا بين الدمعة والجرح، أو بين الدمعة والعزاء، أو بين الدمعة والنصر.

الدمعة يا صبحي هي بداية كلّ كلام جميل، وأنا بكيت عليك.

اعذرني… والبقاء للأمّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى