اقتصاد المعرفة: استثمار إبداع الشباب لا تصديره

إنعام خرّوبي

فرض التحوّل التكنولوجي الهائل الذي يشهده العالم تغييراً كبيراً في نمط حياة البشرية وسلوكها في شتى المجالات، بدءاً من كيفية الحصول على المعلومات مروراً بطريقة التسوّق وتأمين الحاجات الاستهلاكية الضرورية والكمالية وصولاً إلى المعاملات المالية والتجارية وإدارة وتأسيس الأعمال والمؤسسات والشركات.

ورغم ما وفّره هذا التغيير الهائل من راحة ورفاهية للمجتمعات كافة، إلا أنّ مواكبة هذه الوتيرة المتسارعة من التقدّم الرقمي وخصوصاً في الدول ذات الاقتصادات التي تسمّى «نامية»، قد يكون أمراً معقداً إلى حدّ ما، وهو يتطلب وضع استراتيجيات واضحة للتحوّل نحو هذا النوع من الاقتصادات، والأهمّ من ذلك كله توفّر العنصر البشري القادر على الابتكار والإبداع.

خلال العقود الماضية كان لبنان يعتمد على السياحة والتبادل التجاري والخدمات كأساس لاقتصاده، وبفضل موقعه الاستراتيجي في المنطقة والذي يتأثر بكلّ ما يجري فيها وحولها، كان اقتصاده يدفع ثمن الصراعات الدائرة في المنطقة والإقليم والتي أثرت في شكل كبير على حركة التبادل التجاري، وخصوصاً أنّ الدول المجاورة له ودول الخليج كانت سوقاً أساسياً لمنتجاته، كما أنّ مواطني تلك الدول كانوا يشكلون النسبة الأكبر من الحركة السياحية إليه، ما أدّى إلى ارتفاع نسبة البطالة وتراجع النمو الذي كان أصلاً دون المستوى المطلوب وارتفاع نسبة الشباب المهاجرين والعاطلين عن العمل.

لهذه الأسباب كان لا بدّ من التحوّل من الاقتصاد التقليدي القائم على قطاعات محدّدة نحو الاقتصاد الإبداعي المعرفي المفتوح والتركيز على الثقافة كعامل فعّال في تحريك وضمان التنمية المستدامة، وخصوصاً أنّ لبنان يمتع بموارد أساسية أهمّها رأس المال البشري، في عصر أصبحت فيه المعرفة هي المحرك الأساسي للمنافسة وقد أضافت قيماً هائلة إلى المنتجات الاقتصادية التي تأتي على شكل اختراعات جديدة. فالثروات والموارد لم تعد معياراً لغنى الدول وقدرتها على التنافس بدليل أنّ اليابان لا تمتلك تلك الموارد وهي غنية، بينما الأرجنتين مثلاً تمتلكها وهي ليست غنية.

ويشير تقرير الأمم المتحدة حول الاقتصاد الإبداعي الذي صدر مؤخراً، إلى أنّ الاقتصاد الإبداعي «هو من القطاعات التي تنمو بسرعة كبيرة، كما أنه قطاع متحوّل في شكل سريع جداً، خصوصاً في ما يتعلّق بإنتاج المداخيل وفرص العمل ورفع مستوى الصادرات. وبناء على ذلك، هناك إدراك بأنّه يجب على سبل التطوّر الجديدة، أن تشجّع الابتكار والإبداع. وهناك إمكانية للبحث عن قدرات إبداعية مهمّة في عديد من مدن ومناطق البلدان النامية. وفي الواقع هناك عديد من الإنتاج الإبداعي الّذي تحقّق على الرّغم من محدودية البنى التحتية وقدرات المؤسسات ومجالات الاستثمار».

وفي إطار سعيه إلى التشجيع على الاستثمار في المعرفة، أصدر مصرف لبنان في كانون الأول 2013 تعميماً حمل رقم «331» يسمح للمصارف والمؤسسات المالية بالمساهمة، ضمن حدود 3 في المئة من أموالها الخاصة، في رسملة مشاريع ناشئة وحاضنات أعمال وشركات مسرِعة للأعمال يكون نشاطها متمحوراً حول قطاع المعرفة، بهدف التشجيع على تأسيس شركات جديدة يمكن أن تتحوّل مستقبلاً إلى شركات مساهمة تؤمّن فرص عمل جديدة، وكان بنك «الموارد» أول مصرف يستثمر في شركة ناشئة هي شركة «بيرسيلا». ورغم إعلان المصارف أنّ أبوابها مفتوحة أمام روّاد الأعمال إلا أنّ نسبة دخول المصارف على خط رسملة هذا النوع من الشركات والأعمال لا تزال خجولة، رغم أنّ تطبيق هذا التعميم يحقق نتائج مهمة جداً لدى فئة الشباب الذين نصدّرهم بالآلاف، في إطار ما بات يعرف بهجرة الأدمغة، إلى كلّ أصقاع الأرض، كما يساهم في تثبيت هؤلاء الشباب في وطنهم انطلاقاً من إيمانه بهم وبطاقاتهم وابتكاراتهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى