الرواية… سينمائياً وأدبياً

نزار حسين راشد

على رفّ الكتب الخاص بالسيدة صاحبة النزُل، الذي كنت أقيم فيه، كان اللقاء الأول لي بالرواية السينمائية. وكوني صاحب قلمٍ كاتب واهتماماتٍ أدبيّة، فقد أثار الموضوع اهتمامي!

كان الرفّ مزدحماً بروايات هارولد روبنز ودانييلا ستيل وآخرين، وبعدما قرأتها كلّها، قرّرت بيني وبين نفسي، أنّ الرواية الأدبية والرواية السينمائية، جنسان مختلفان، بتقنياتٍ وتوظيفاتٍ مختلفة! وحيث أنّ القفز إلى استنتاج كهذا لا يكفي لجعل رأيي هذا موضوعياً، فقد قرّرت أن أقرأ ما كُتب حول هذا الموضوع!

وجدت أنّ كتّاباً أوروبيين وأميركيين كثيرين اتّفقوا على أنّ السينما في حدّ ذاتها قد ألهمت بتقنياتها كتّاب الرواية الحديثة، أي بعد دخول عصر السينما، وحفّزتهم على مزيدٍ من توظيف الصورة الحيّة بالكلمات، وقد أعدّوا قائمة بالكتّاب الذين تحوّلت أعمالهم إلى أفلام سينمائية، كبول آستر وكين كيسي ووليام فالكنر وبوريس باسترناك. ولدهشتي، لم أجد بين الأسماء كتّاب الرف، الذي حصدته قراءة. فقد سقط اسم هارولد روبنز ودانييلا ستيل من القائمة، من دون إبداء الأعذار!

أمّا الكتّاب العرب، فقد كانت قائمتهم أكثر شمولية. فشملت يوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدّوس، وكل كتّاب الخمسينات والستينات العرب. وهذه المرّة سقطت من القائمة، أسماءٌ لامعة بدورها أيضاً، كطه حسين الذي تحوّلت روايتاه «الحب الضائع» و«دعاء الكروان»، إلى فلمين سينمائيين، إسقاطٌ لا مبرّرات موضوعية له على الإطلاق!

بالنسبة إليّ، كان هذا استنتاجاً مضحكاً وهرماً مقلوباً، ومرتكزاً على أرنبة أنفه!

ولأنّ الكتابة الإبداعية لعبتي، فأنا أعرف جيداً أنّ اللغة التصويرية، هي الأداة الأكثر شيوعاً وتوظيفاً بين كبار الأدباء، من دون أن يخطر في بالهم أنهم يكتبون للسينما أويوظّفون تقنياتها توظيفاً واعياً على الإطلاق!

ولأشير إلى صحّة ما ذهبت إليه، فقد ضربت كتّاب الرواية البوليسية مثلاً. كموريس لبلان وآرثر كونان دويل وإيان فلمنغ، وأخيراً آغاثا كريستي. فحين قدّم هؤلاء أبطالهم، إرسين لوبين وجيمس بوند وشرلوك هولمز وهيركيلو بوار، كان خيالهم المبدع هو الذي اخترع هذه الشخصيات لا حرصهم على تفصيل شخصيات سينمائية! وعلى العكس تماماً، فإنّ صناعة السينما هي التي وجدت في هذه الروايات مرجعاً ثرياً ومنجماً لا ينضب! فإذا كانت الرواية البوليسية لا تندرج تحت تعريف الرواية السينمائية أو التي تكتب خصّيصاً للسينما، وإن كانت الاكثر قرباً منها كجنس منها إلى الرواية الأدبية، فمن بابٍ أولى، ألّا تكون الرواية الأدبية كذلك. وألّا تكون قد قيّدت نفسها أوحتى تأثّرت بتقنيات السينما أو صناعتها.

ومرّة أخرى، يطلّ السؤال المزعج برأسه: كيف يمكن تعريف الرواية السينمائية؟ وما الذي يميّزها حقاً عن الرواية الأدبية؟

أحمد مراد، وهو كاتب سينمائي مصري، تحوّلت روايته «فيرتيغو» إلى مسلسل. يقول إنّ ما يهم في الرواية السينمائية، الحبكة الدرامية، والتي يمكن تحويلها بسهولة إلى سيناريو!

أحمد ثامر جهاد يقول: «موسيقى الحظ»، فيلمٌ عن مفارقة الحياة والصداقة والحظ ومعنى الخسارة والربح!

أحمد مراد يضرب مثلاً «عمارة يعقوبيان» كنموذج جيد للرواية السينمائية، ويرى أيضاً أنها تحوّلت بسهولة إلى فيلم سينمائيّ، لأنّها كتبت كرواية أصلاً، لا كسيناريو سينمائيّ. ويرى أيضاً أنّ واقعيتها مؤهلٌ أصيل لتحويلها إلى عمل سينمائيّ. فعلى حدّ قوله، الرواية الواقعية أكثر قابلية وتأهيلاً للتحويل إلى عملٍ سينمائيّ!

هؤلاء الكتّاب لاقوا رأيي في منتصف الطريق، وعبّروا عن بعض ما يدور في خلدي حول الموضوع بشكلٍ فضفاضٍ ربّما!

مجمل هذه الآراء ينقض فكرة أنّ الرواية في حدّ ذاتها تتعمّد استخدام تقنيات السينما أو تستلهمها، كونها تطمح لأن تتحوّل إلى عمل سينمائيّ. وهنا أختلف أيضاً مع فكرة أنّ الرواية الواقعية، مؤهّلة أكثر للتحويل إلى عمل سينمائيّ، وأفلام الـ«فانتازي» والخيال العلمي التي لقيت رواجاً كبيراً، تشير إلى عكس هذه الحقيقة!

عودةً إلى هارولد روبينز ودانييلا ستيل ورفّ السيدة العجوز، فقد وجدت سماتٍ ومواصفات للرواية السينمائية، عبّرت عنها ربّما آراء الكتّاب آنفي الذكر تعبيراً عمومياً، إنما من دون صرامة وتفصيل، ومن دون رسم الفواصل والخطوط التي تميّز الرواية الأدبية عن الرواية السينمائية.

الرواية السينمائية تركّز على الحبكة كما ذكر. إنها تضع ذلك في مقدّمة أولوياتها، ولكن هذه قد تكون سمة مشتركة أيضاً بينها وبين الرواية الأدبية. إذن، يبقى هذا معيارٌ غير كافٍ للتمييز بين الجنسين.

الرواية السينمائية ترسم خطوطاً عميقة متعمّدة للمعاني التي تريد إبرازها كالخيانة أو الحظّ العاثر أو التضحية أو الحظّ السعيد. وفي سبيل هذا الإبراز، فإنّها تحتال على اللغة والصيغ التعبيرية لتجنح بها بعيداً عن البعد الأدبي الذي يهدف إلى تعميق المشاعر، عوضاً عن إثارة التعاطف المباشر مع البطل أو الضحية، اللذين تركّز على أحدهما الرواية السينمائية.

الرواية السينمائية ترتّب الأحداث ترتيباً متعمّداً، تماماً كما ترتّب بهو بيتك ولا تترك مجالاً للتنامي العفوي أو الهرمونية الداخلية التي تمنحها الرواية الأدبية للحدث.

الرواية السينمائية لا تترك شيئاً للصدفة، على عكس الرواية الأدبية التي تطلق الأحداث في فضاءٍ رحب هو فضاء الكتابة الروائية الحر.

واللغة، التي هي مادة الإبداع وخامته، فبينما تتحول في الرواية الأدبية إلى أفكار وتداعيات وتوصيفات تخلق ما يسمى «جوّ الرواية»، تتحوّل في الرواية السينمائية إلى عبارات واستعارات توافق توجّهات الشخصيات النمطية التي تتوزّع بينها الأدوار المحدّدة.

وأخيراً الشخصيّات، فبينما تخلق الرواية السينمائية شخصياتها النمطية: الطيّب والشرّير كنموج واضح،لا تتقيّد الرواية الأدبية بأنماطٍ للشخصية. وعوضاً عن ذلك، تضع الشخصية في سياقات الظروف والمواقف التي قد تملي ردود فعلها، أو تحدوها إلى سلوكات لا يمكن التنبّؤ بها من خلال الأنماط المرسومة. فقد تنبثق مواقف مثالية من شخصيات لم تصوّر أصلاً على أنّها كذلك. وبهذا، يتحرّك البعد الإنساني في دائرته الكونية المطلقة عوضاً عن الأنماط والنماذج التي تنزع الرواية السينمائية إلى توظيفها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى