الأسد وحروبه الارتدادية: فلسفة النصر

ناصر قنديل

– يشتغل الكثيرون على محاولة فهم أسرار الاستراتيجية التي تحكم مقاربة الرئيس السوري بشار الأسد للحروب المركبة والمعقدة التي تعيشها سورية منذ أربع سنوات ونصف السنة، وتتداخل فيها عناصر الحرب الأهلية، بحروب الحدود الواضحة وغير المعلنة في آن، من جبهتي الشمال التركي والجنوب الأردني إضافة إلى تحريك الجبهة التقليدية مع جيش الاحتلال «الإسرائيلي»، ومعهما حرب استخبارات عالمية مفتوحة متعدّدة القوى والقدرات تكتب عنها وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الغربية ما يكفي، وتنخرط فيها بحيوية وفاعلية استخبارات دول عظمى كأميركا وفرنسا وبريطانيا ودول إقليمية فاعلة كالسعودية و«إسرائيل» وتركيا، وتتراكم فوق طبقاتها حرب شرسة وضروس يخوضها تنظيم «القاعدة» الذي تقول التقارير إنه جمع لإحكام قبضته على سورية كلّ قدراته في العالم وما لم يجتمع في أي دولة قاتل فيها تنظيم «القاعدة» من قبل سواء أفغانستان أو العراق، وتقدّر الأموال المنفقة في هذه الحروب المجتمعة حتى الآن بمئة مليار دولار وعدد وسائل الإعلام المتنوّعة المسخرة للفوز بها بأكثر من ألف وسيلة مكتوبة ومسموعة ومرئية وإلكترونية، بينها وفي طليعتها الأوسع نفوذاً بين وسائل صناعة الرأي العام في العالم والمنطقة.

– يظهر الرئيس السوري في وجه هذه الحروب كملاكم يتلقى الضربات ويحمي أنفه وعينيه بيدين من فولاذ، يحرك لكماته بيده اليسرى لردّ المهاجمين، من دون أن يبدّد طاقته على الصمود أو يهدر مصادر قوته، مكتفياً بإبعاد اللكمات القاسية المسدّدة نحو قلبه بلكمات تكفي لصدّها ثم ينكفئ من دون أن يواصل التقدّم، يدافع ببراعة ويناور ببراعة لكنه لم يهاجم بعد ولم يستخدم يمناه حتى الآن ولم تظهر عليه علامات التعب، يراقص خصومه على الحلبة ولما تشتدّ الهجمات يتحكم بمرونة حركة جسده بكلّ اتجاه، لكنه لا يسقط.

– يستعرض خبراء الحروب أسئلة من نوع، كيف يمكن لدولة تتعرّض لما تتعرّض له سورية أن تمسك نفسها، وهي تملك المقومات لإشعال حروب إقليمية، عن إشعال هذه الحروب وقد جاءتها الفرص مراراً مع «إسرائيل» أو مع الأردن أو مع تركيا؟ وهي تعلم أنّ إشعال مثل هذه الحروب التي ستتحوّل سريعاً إلى حروب صواريخ سيفرض إيقاعاً سريعاً على العالم للتدخل لوقفها وصناعة التسويات، بما يضمن لسورية تجنّب مواصلة حروب الإسقاط وفرض قبولها شريكاً حكمياً في هذه التسويات، ولو بصيغ ستفتح باب البحث بحلول سورية داخلية يتدخل في صناعتها الآخرون. وهل يثق الرئيس السوري بشار الأسد إلى هذه الدرجة بقدرته على الفوز بالحربين معاً، حربه مع الذين يستهدفون نظامه على رغم تعدّدهم ومقدراتهم، وحربه لحماية البعد السيادي السوري للحلّ السياسي الداخلي، حتى يحجم دائماً عن اصطياد فرص الاستفزازات الحدودية وتحويلها لمشاريع حروب تفتح أبواب التسويات، ولا يتردّد في مواصلة طريقه حتى عندما يبدو أنّ الخطر يقترب من عاصمته، ويتحمّل مواصلة طريقته في القتال حتى عندما يكون حلفاؤه موضع تساؤلات حول مدى تمسكهم به ووقوفهم في صفه ودرجة استعدادهم لمشاركته مصيراً يبدو مرات كثيرة أنه مدعاة للتشاؤم؟

– يستعرض خبراء الحروب نوعاً آخر من التساؤلات، من نوع كيف يمكن للرئيس السوري أن يمسك أجهزة استخباراته القادرة عن الردّ بالمثل على ما يطاول بلده من أعمال تخريب؟ فكيف ينجح بتحمّل ما لا يحتمل ولا يغضب يوماً فيأمر باستهداف قطر أو السعودية أو تركيا بأعمال تشبه تلك التي تتولى حكومات هذه الدول تنظيمها ورعايته ضدّه وضدّ جيشه ومؤسسات دولته، وكثير من الأحيان ضدّ منشآت مدنية ومواطنين أبرياء؟ ويبدو مصدر غرابة لهؤلاء أن لا يملك أي من أعداء الأسد مضبطة إتهامية ضدّه عنوانها التورّط في أعمال إرهابية على رغم هول ما يفعله هؤلاء في سورية. والمسألة هنا تتخطى حدود الشجاعة الشخصية والقدرة على التحمّل في وجه حرب إعلامية مفتوحة ضدّه على مدار الساعة تتناوله شخصياً بحرب أعصاب، وعلى رغم ما يصل حدّ استهدافه الشخصي أمنياً أيضاً وهو الذي لم يغادر مكتبه الرئاسي في أصعب ظروف الحرب.

– تبدو استراتيجية الصمود المركب التي يديرها الأسد محيّرة في نتائجها المبهرة، وهو صمود يبدأ من الثبات الشخصي للرئيس ليبث خيار الصمود على مستوى جيشه وشعبه وحلفائه، ويبث التوتر وروح الهزيمة والفشل في معسكرات خصومه تأسيساً على معادلة أنّ حجم الخيبة بقدر الأمل، فالصمود بالنسبة لحجم مقدرات سورية قياساً بأعدائها معجزة تمنح الأمل بالنصر السريع للخصوم داخل سورية وخارجها، وبالقياس نفسه للقدرات المتقابلة وأوهام السقوط السريع المتوقع لسورية تصير خيبات أعداء الأسد من الصمود، وكلما توسع مدى الصمود وامتدّ زمانه تشجع الحلفاء على خوض حروبهم المؤجلة مع ذات معسكر الخصوم لترصيد نقاط تقدّم في حساباتهم، وهذا معنى ما جرى في الأزمة الأوكرانية بإمساك روسيا لورقة القرم وحسمها، ومثله ما جرى في الملف النووي الإيراني والصلابة الإيرانية وشجاعة الذهاب إلى التخصيب المرتفع التي أرعبت خصومها وجلبتهم إلى تفاهمات بحدود الممكن والمتاح. وفي المقابل كلما توسع مدى الصمود وامتدّ زمانه ارتعشت فرائص الخصوم وبدأوا يرتكبون الأخطاء ويقعون في الانفعال بحثاً عن حروب رديفة أحياناً وبديلة أحياناً أخرى. وهكذا هي حرب «إسرائيل» لتغيير قواعد الاشتباك مع المقاومة ونتائجها العكسية، وحرب السعودية في اليمن وتتويجها بالفشل الذريع والخيبة والخذلان، وحرب القيادة التركية على المعارضة ومحاولة الاستئثار والإقصاء والإلغاء ونتائجها الكارثية بالانتحار السياسي للرئيس التركي، الذي شكل رمز الحرب على سورية طوال أربع سنوات.

– حروب الأسد الارتدادية لم يخضها هو، لكنه فرضها وحفز نحوها وسيقطف ثمارها. وهي فلسفة كاملة لصناعة النصر باستحضار التاريخ والجغرافيا كعاملين سريّين في حسم الحرب، يشكلان مكافئاً متفوّقاً مقابل ما يملكه الخصوم من أسلحة للدمار الشامل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى