التحدي والاستجابة

معن بشور

مهما بلغ حجم المكابرة والإنكار إزاء ما شهدته العاصمة اللبنانية وجوارها من تدفق غير مسبوق للمواطنين السوريين المقيمين في لبنان والخارج للمشاركة في الانتخابات الرئاسية، فلا أحد من المكابرين أو المنكرين أو المصدومين بهذا المشهد يستطيع أن يتجاهل حقيقة شعبية وسياسية صارخة لطالما جرت محاولات محلية وإقليمية ودولية لتجاهلها، وهي أن الشعب السوري بجميع مكوّناته بات مدركاً، بما لا يقبل الشك، أن المستهدف بكل ما شهدته بلاده هو الدولة والمجتمع، الشعب والجيش، السيادة والكرامة، الوحدة الوطنية والإرادة المستقلة، الخيارات والتوجهات القومية الرافضة للهيمنة الاستعمارية.

اللبنانيون، ومعهم أشقاؤهم السوريون والعرب وأحرار العالم، رأوا في التدفق الشعبي بالأمس، مشهداً مماثلاً لذلك التدفق الشعبي الذي شهده لبنان اثر حرب تموز 2006، يوم عودة الجنوبيين الفورية إلى بيوتهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم انتصاراً لا يقلّ في أهميته عن الانتصار الذي حققته معادلة الشعب والجيش والمقاومة في مواجهة العدوان الآثم عامذاك.

ومثلما لم يكن تدفق الجنوبيين مجرد فرحة بانتصار على عدوان فحسب، ولا مجرد تمسك بمقاومة دافعت عن الأرض والبشر والسيادة والكرامة، بل كان تمسكاً كذلك بوطن وقراره، وببلد وأمنه، وبأمة ومستقبلها، كذلك كان تدفق السوريين بالأمس، اللاجئون منهم والمقيمون رسالة تعلن تمسكهم بوطنهم واستقلاله، وببلدهم واستقراره، وبأمتهم وأمنها، وثوابتها القومية، وهي رسالة ينبغي لجميع المتورطين في المنحنة السورية أن يقرأوها جيداً، وأن يعيدوا النظر في حساباتهم على ضوئها، وأن يتحرروا من جملة الافتراضات والافتراءات التي أطلقتها أبواقهم على مدى سنوات، فأصبحوا هم فريستها وضحاياها بعدما قتلت هذه المخططات ما قتلته من السوريين، ودمرت ما دمرته من بيوتهم ومرافقهم، وممتلكاتهم، وهجّرت من هجّرت من أهلهم وأبناء وطنهم.

هذا التدفق الذي انضم إليه كثيرون ممّن انطلت عليهم في بداية الحوادث أحابيل أعداء سورية الذين استدرجوا بعض شبابها إلى أتون حرب مدمرة، وأثاروا لدى بعضهم أبشع أشكال الغرائز البدائية المتخلّفة، كشف سطوع التمييز بين مطالب مشروعة للشعب السوري وأجندات مشبوهة لأعداء هذا الشعب، كما كشف وضوح التمييز بين اعتراضات وانتقادات مفهومة ومبررة لأخطاء وخطايا، ومؤامرة دموية أرادت أن تحرق الأخضر في سورية واليابس وأن تنتقم من كل موقف أو وقفة لشعبها وجيشها وقادتها منذ الاستقلال في وجه الاستعمار وأدواته ومخططاته وحتى الآن.

لعلّ من محاسن الصدف أن تتذكر سورية هذه الأيام القصف الفرنسي لمبنى البرلمان في 31 أيار 1946، وأن تتذكر حرب الخامس من حزيران عام 1967 ضد سورية ومصر وفلسطين والتي أسفرت عن احتلال الجولان وسيناء ومزارع شبعا وصولاً إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ومعها القدس التي يحتفل العدو اليوم بـ«عيد توحيدها في السابع من حزيران، كما تتذكر كيف خرجت جماهير 9 و10 حزيران في مصر والأمة العربية رافضة تنحي القائد الخالد الذكر جمال عبد الناصر كعنوان لرفضها وتمسكها بمقاومة الاحتلال.

إن قانون التحدي والاستجابة الذي أطلقه يوماً المؤرخ البريطاني الكبير الراحل أرنولد توينبي، إذ اعتبر أن لكل تحد استجابة، وأنه إذا كبر التحدي كبرت معه الاستجابة، يظهر لنا كيف أن تاريخ هذه الأمة المجيدة كان دائماً محكوماً بهذا القانون بدءاً من فلسطين إلى لبنان، إلى العراق إلى مصر إلى مختلف الأقطار من جبل طارق إلى مضيق هرمز. وما رأيناه في بيروت بالأمس ليس إلا ترجمة جديدة لذلك القانون الذي نتطلع دوماً إلى ألاّ تنحصر الاستجابة فيه للتحدي عبر مواجهة أعداء الأمة، بل أيضاً عبر مواجهة الأخطاء والخطايا التي يقع فيها المدافعون عن هذه الأمة.

منع السوريين من الاقتراع في العديد من العواصم العربية والدولية يكشف أيضاً زيف تلك الادعاءات، فإذا كان السوريّون في لبنان وغيره مغلوبين على أمرهم، على ما يزعم هؤلاء، فكيف يفسرون قرار بعض العواصم العربية والأجنبية منعهم من التصويت والمشاركة في استحقاق ديمقراطي لطالما ادعوا إن ما جرى في سورية كان يهدف إلى تحقيق الحرية والديمقراطية معاً، وقد رأى السوريون ترجمة مفجعة لهذين المطلبين الساميين التي لا تنهض الأمم من دونهما.

فهل يعيد المراهنون على سقوط سورية حساباتهم، ويراجعون السياسة التي تورطوا فيها، وورطوا السوريين بدمائهم وعمرانهم في أتونها؟

قد يقول البعض إن في الأمر ما هو أكثر من خطأ في الحسابات لدى هؤلاء، بل إن فيه إمعاناً في تآمر صهيوني ـ استعماري ـ رجعي ما زالت فصوله مستمرة على هذه الجبهة أو تلك. ولكن من قال إن المتآمرين لا يضطرون أحياناً إلى مراجعة حساباتهم، وإلى التراجع عن سياساتهم لانتهاج سياسة أكثر خدمة لمخططاتهم.

البعض يتحدث عن تقدم سياسي تحققه الدولة في سورية، والبعض الآخر عن تقدم ميداني يحققه الجيش العربي السوري، لكن ما شهدته العاصمة اللبنانية وجوارها وغيرها من عواصم الاقتراع يتحدث عن تقدم سياسي وميداني معاً، وأبرز ما في هذا التقدم المزدوج أنه فضح دعاوى الترهيب والترغيب كلّها التي كانت تستخدم في تفسير المسيرات المليونية داخل سورية والتشهير بها قد سقطت، وأن كل من ذرف دموع التماسيح يوماً على الشعب السوري ونازحيه يتحوّل اليوم إلى استخدام مختلف المفردات العنصرية التي تحاول إهانة كرامة السوريين إنما كان يخفي حقداً على الشعب السوري بأسره، وهو الذي رفع بعض أبنائه بالأمس شعار الموت ولا المذلة فإذا بهم يواجهون الموت والمذلة في آن واحد.

هذا التدفق غير المسبوق يرفض الموت والمذلة معاً، ويتمسك بالوطن والدولة، والأمن والأمان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى