عصر جديد

د.نسيب أبوضرغم

ليس جديداً القول، أن سورية في العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، قد أوجدت نفسها في المنظومة الدولية، رقماً جيو-سياسياً وجيو-استراتيجياً، لابد له، من أن يحقق لسورية انتقالاً نوعياً من حالة الانفعال على مدى قرن كامل بدأ مع سايكس-بيكو إلى حالة الفعل ضمن مجموعة دولية أخذت تشق طريقها لتكون مقررة في السياسة الدولية، وذلك منذ صعود فلاديمير بوتين إلى السلطة في روسيا عام 2000.

سورية الجديدة، هي سورية المحققة مصلحتها مادياً ونفسياً في معادلة لم تكن قد وجدت من قبل بمثل هذا الوضوح والاندفاع.

سورية الجديدة هذه، هي سورية المحور الذي سيدور حوله العالم العربي، المحور الذي سيشكل نقطة الثقل في الصراع مع كيان العدو، سورية الجديدة، هي سورية التي ستطوي مئة عام من الدوران في دوامة الأطر الصهيو-غربية التي فُرضت على العالم العربي، والذي كلف هذه الأمة زرع السرطان اليهودي في فلسطين- جنوب سورية، إضافة الى حربين شاملتين وما تفرع عنهما من اجتياحات ومواجهات. سورية الجديدة، هي سورية الدولة المقاومة، سورية المعادلة الجديدة التي سترسم مسارات عديدة ليس في المشرق العربي، بل في بلدان عربية أخرى.

سورية، أدركت منذ البدء، أن حرباً كونية قد شُنت عليها، والغاية هي شطب سورية من الجغرافيا والتاريخ والحضارة والمستقبل، لأنها سيدة الجغرافيا وموئل التاريخ وصانعة الحضارة وضامنة المستقبل، وكل هذا نقيض المسار الذي رسمته الصهيونية للمنطقة منذ مئة عام. الآن يشهد التاريخ حراكاً لم يكن مسبوقاً البتة، هو حراك روسيا الاتحادية، روسيا التي تدرك بالوعي الجيو-استراتيجي، أن بقاءها كروسيا، بما يعني ذلك من مضامين تاريخية وحضارية وثقافية، وكذلك بقاءها اتحادية، متوقف على بقاء سورية حرة موحدة قادرة. هذا المفهوم الجيو-استراتيجي، أدركته الإمبراطورة العظيمة كاترين، ويدركه كل حاكم متبصر، لأن المعطيات الجيو-استراتيجية غير خاضعة للاعتبارات السياسية المتقلبة.

ما تواجهه سورية وحلفاؤها وفي مقدمهم روسيا الاتحادية، هو مشروع دهري متراكم يمثل حياة النفوذ الغربي عبر السرطان اليهودي، وبالتالي فإن الصراع الناشئ الآن على الحلبة السورية، هو صراع دولي يتوقف عليه المشهد السياسي ل دول العالم كافة من حيث انخراطها في محاور جديدة ستشهدها الكرة الأرضية، بعد فترة ربع قرن تزعمت عبره الولايات المتحدة العالم وحيدة متفردة.

ليس من المستغرب أن تقوم روسيا الاتحادية بمناورات بحرية في البحر السوري، بل المستغرب هو أن تستنكف عن القيام بذلك.

إن الذين يستغربون هذه المناورات، هم واحد من اثنين: إما جهلة لا يدركون طبيعة العلاقة الاستراتيجية التي تربط الجغرافيتين الروسية والسورية، وإما كارهون لها وبالتالي يطمرون رؤوسهم في الرمال على طريقة النعامة.

هؤلاء، سيستفيقون يوماً على مشهد سياسي ـ أمني ـ عسكري في سورية يجعلهم يترحمون على مرحلة المناورات البحرية.

ومن البداهة القول إن روسيا الاتحادية وجدت نفسها بفعل المخطط الصهيو-أميركي الذي بدئ بتنفيذه عام 2003 في العراق عبر احتلال هذا البلد وما يمثل، وصولاً الى مسرحية «الربيع العربي» و»ثورات» برنارد ليفي في ليبيا وسواها، إلى محصلة تقول بأن هذا «الربيع» الذي ابتدأ عربياً مقدراً له أن يصبح روسياً وصينياً وأن يحط في أية جغرافيا معادية لتمدد مشروع الصهاينة. ما يعني إسقاط روسيا كدولة لديها إمكانية أن تكون رأس حربة في بناء النظام الدولي الجديد وبالتالي نقل فيروس الإرهابيين إليها عبر حدودها الجنوبية والجنوبية الشرقية.

لقد انتهت تداعيات الحرب على سوريا الى معادلة تقول: إن بقاء روسيا اتحادية قوية مرهون ببقاء سورية متحدة قوية. بل أكثر من ذلك، فإن حجم المصالح الهائلة في سورية لمصلحة روسيا وبالعكس، يدفع الى اعتبار وحدة الهلال الخصيب شرطاً ضرورياً لضمان بقاء الحضور الروسي جنوب تركيا وعلى مدى البحر الأبيض المتوسط.

إن وحدة الهلال الخصيب هي الضامن لمصالح مشتركة تبدأ بالنفط والغاز وتنتهي بضرورات المواجهة مع الحلف الصهيو-أميركي، كل ذلك مضافاً الى إيران التي تعتبر أن دورها في الحرب على «إسرائيل» جزء أساسي وبنيوي من تفكيرها الاستراتيجي، وبالتالي فإن وحدة الهلال الخصيب هي العامل الأهم في تمتين الدور الإيراني المشار إليه.

إزاء حجم هذه المصالح الاستراتيجية، تبدو الى المتابع صورة الحرب على سورية بغير ما يجرى تصويرها من قبل التحالف الصهيو-أميركي وأذنابه، من حيث هي حرب ضد نظام من أجل الديمقراطية، أو أنها حرب على سورية حدودها الجغرافيا السورية فقط.

إنها حرب على سورية، وفي سورية، ولكنها حرب العالم على سورية وفيها من أجل ضرب الجغرافيا السورية والدولة السورية والشعب السوري كشرط لا بد منه، بضرب استراتيجية الدولة الروسية ووجودها جنوب تركيا وفي البحر المتوسط. بناءً على ذلك، يمكننا استنتاج بأننا قد نشهد حرباً كالحرب الإسبانية حيث احتشد العالم كله لتحقيق مكاسب استراتيجية شاملة.

إن التحالف الصهيو-أميركي، سوف يصر على لعب ورقته من الجنوب كما أنه لا يتورع عن لعب الورقة ذاتها من الشمال.

وتبقى «إسرائيل» هي المايسترو الذي يقود كل هذه الحروب وهو في الجانب غير المباشر في كثر من الأحيان، فـ»إسرائيل» التي تقاتل سورية حتى الآن ببشر منا ومال منا وإعلام منا من دون أن تخسر دولاراً واحداً، بل بالعكس فإنها تكسب الملايين من الدولارات من خلال بيع الأسلحة وشراء النفط الرخيص. «إسرائيل» لن توقف حربها لأنها حرب وجود بالنسبة إليها.

«إسرائيل» تدرك أن القرن الماضي الذي بدأ عام 1916 وحتى اللحظة هو قرن يهودي بإمتياز بدأ يتلاشى منذ عام 2000 وهو الآن على وشك انهياره وقيام مئة عام جديدة هي القرن السوري بامتياز.

إن بشائر النصر بدأت تلوح. ولا شيء يمنع صعود الفجر القومي وإن كان ناهضاً من دم الشعب السوري وخراب اقتصاده وآلام مآسيه.

إن أكثر الانتصارات ديمومة، تلك الناهضة من بحر الدماء.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى