أين تقع متناقضة الكباش واللين في طبخة رابح رابح؟

د. محمد بكر

تتبدّل المشاهد التي تتوارد على المسرح الدولي بين الفينة والأخرى وبين عرضٍ وآخر تتنامى فيها تارةً حدة اللهجة ومستوى الخطاب التصعيدي، ثم سرعان ما يخبو التهديد والوعيد ليصبح في ليلة وضحاها ما كان محرماً وممنوعاً، حلالاً وقابلاً للتداول والتباحث تارةً أخرى، فواشنطن التي أعلنت خارجيتها أخيراً وبالتوازي مع وتيرة عالية من الحراك وزيارات بالجملة لحلفائها المصنوعة على عينها باتجاه موسكو، أنها ماضية في إسقاط الأسد عادّة ذلك أمراً أساسياً لمحاربة داعش، في حين مضى حليفها السعودي هو الآخر قدماً في رفع سقف المطالب والطروحات وليغالي في رؤيته إلى درجة الهذيان لجهة التخيير بين رحيل الأسد سلمياً أو بالعمل العسكري، مقدّماً صورة من القراءة غير الواقعية ومقاربة عرجاء لماهية المشهد الدولي، تعاود اليوم بعد ذلك التصعيد توارد مشاهد مختلفة تماماً رسمتها الريشة الأوروبية وتحديداً ما أعلنته كل من الخارجية البريطانية والنمساوية حول القبول بوجود الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية وقبول الحوار معه، فيما أعلن كاميرون أن العمليات العسكرية لبريطانيا سيكون هدفها داعش فقط وليس المطلوب إسقاط النظام في سورية، ولا أحد هنا يستطيع إلا أن يقرأ الجديد الأوروبي إلا عبر الضوء الأخضر الأميركي، مشاهد سبقتها وتلتها كذلك سيولٌ من مشاهد الكباش والردود النارية لم تجد موسكو وطهران أي حرج في إعلانها وتقديم رسائل التلازم الوثيق في الرؤى والتنسيق عالي المستوى بين الجانبين، إذ مضت موسكو في سياستها الداعمة لسورية وتصدير جملة من صور الثبات والثقة بحيثيات ويوميات الميدان السوري لدرجة «البت القطعي» في السيناريوات والاحتمالات التي تدور في ذهن الخصم لجهة تأكيد استحالة إسقاط سورية حتى بالسلاح وأنها مستمرة في تزويد سورية بالعتاد العسكري لمواجهة خطر الإرهاب ولا تستعبد كذلك اتخاذ إجراءات إضافية إنْ لزم الأمر، واستمرارية الجسر الجوي بين البلدين عبر طهران، ولتشدد موسكو مع الأخيرة عبر الاتصال الهاتفي الذي جرى بين حسين عبد اللهيان وميخائيل بوغدانوف أن لا قيمة لأي حل سياسي في سورية لا يراعي دور المؤسسات والشعب السوري والرئيس السوري ومكافحة جدية للإرهاب، يبرز بشدة منطق التحالفات أكثر، وتظهر جليةً الاصطفافات، في لعبة أمم شديدة الوطيس وحامية النيران، إذ يعلن العراق استعداده لتكون أجواؤه ممراً للمساعدات الروسية إلى سورية، فيما تعلن إيران أنها ستقطع اليد التي تفكر بالخيارات العسكرية ضدها وأنها لن تفاوض الأميركي في غير النووي، يستعد التحالف السعودي بدوره لحصد النقاط في الساحة اليمنية عبر التدخل البري ويحشد الآلاف مع حلفائه، والمقرب من الملك سلمان بحسب القناة الإسرائيلية «24i» المدعو أنور عشقي يباهي بعلاقة بلاده مع الكيان الصهيوني معتبراً نتنياهو الرجل الواقعي والمنطقي وأنّ السعودية تجد في إيران العدو الأول في المنطقة، فيما يبادل نتنياهو حليفه ومحبوبه السعودي الحب بالحب والوفاء بالوفاء والغزل بالهيام ليؤكد من بريطانيا أنّ دولاً عربية تؤيد في الغرف المغلقة الاعتراف بدولة للشعب اليهودي لكنها تنتظر نضوج عملية السلام لتعلن ذلك، متقاسماً ومحبوبه ذات القلق من إيران وما سماه حضورها العسكري في سورية، مؤكداً سعيه لكبح عدوانيتها، ليختم أوباما كل ذلك الكباش الحاصل بخاتم أكثر التهاباً وخلال كلمته لمناسبة ذكرى هجمات 11 أيلول لجهة أن الاستراتيجية الروسية في سورية ستفشل وهو الذي صادق من حلال ما أعلنه البيت الأبيض بالترحيب بأي جهد روسي لمحاربة داعش لكن القلق يبقى حيال الدعم الروسي للنظام السوري.

فما الذي يريده الأميركي؟ وهو الذي اعتبر الاتفاق النووي الذي صار بحكم النافذ بعد فشل الجمهوريين في عرقلته، نصراً دبلوماسياً للولايات المتحدة، ولماذا التصدير لكل صور الكباش السياسي تارةً واللين تارة أخرى عبر حلفائه؟

بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والسداسية الدولية، نشط الروسي نشاطاً فريداً في صياغة مسارات بناءة وجدية في ما يتعلق بحل الأزمة السورية من جهة، والعمل على تشكيلٍ جديد لجبهة إقليمية ودولية لمواجهة داعش كانت فيها مصر أول المصادقين من خلال زيارة السيسي الأخيرة لروسية، بالتوازي مع فشل ذريع لاستراتيجية التحالف الأميركي في القضاء على داعش، إضافة للجهد الروسي في لملمة ما تشظى من معارضات سورية تمهيداً لجنيف 3 الذي سيكون مختلفاً حتماً عن سابقيه ولا سيما بعد نفاذ الاتفاق النووي وما أسّسه من توافق على معادلة رابح ـ رابح، أضف أيضاً الحراك الروسي غير المسبوق في المضمار العسكري للحلفاء تم التوقيع خلاله على تزويد طهران بأربعة كتائب من منظومة اس 300 الدفاعية إضافة لتزويد سورية بأنظمة إس إي 22 المضادة للطائرات، بحسب ما أعلنته «رويترز» نقلاً عن مصادر غربية وروسية، لا بل بات الحراك الروسي العسكري يتعدى جغرافيا الحلفاء لتعلن موسكو طلب المغرب شراء 60 مدرعة ب م ب 3 وكذلك تزويد الجزائر بطائرات سوخوي، أمام كلّ ذلك فإنّ الروسي بات في التقييم السياسي الأميركي متصدراً للمشهد الدولي بامتياز، يقدّم نفسه راعياً ومعداً ومحضراً فذاً لطبخة التوافقات الذي صادق عليها الأميركي أصلاً، وتالياً فإن كل الكباش السياسي الأميركي الحاصل لن يؤسس في اعتقادنا لأية صيغ وتشكيلات تصادمية على الإطلاق وما هو إلا بمنزلة «النارالسياسية» التي تحتاجها طبخة رابح رابح للنضوج، ولا يجد الأميركي بموازاتها أيضاً أي تململ أو تباطؤ لتقديم صور ٍمن اللين والتهدئة عبر حلفائه كـ»ملح الطعام» الذي يضفي المذاق المطلوب على ما أصبح خلف الظهر، ويكون بمثابة العربون لمشاركة وتقاسم الجهد الروسي، إذ لن يغامر الأميركي مطلقاً في إطلاق النار على ما عدّه انتصاراً دبلوماسياً في ما يتعلق بالاتفاق النووي، وإن كل كباش يصوغه ما هو إلا سعي لتجميل مرحلة ما بعد الاتفاق النووي وزمن التسويات، في محاولة للتغطية على الحضور الروسي وتبهيت لمعانه السياسي، وكل ما يتبدّى أميركياً من تصريحات تصعيدية وما يُصدّر من مشاعر القلق حيال دعم روسيا للدولة السورية ما هو إلا هيجان إعلامي فقط يدرك فيه الأميركي أن هذا الدعم لن يسخر ولن يكرّس إلا في إطار مواجهة الإرهاب والإرهاب فقط ، ولن يسيء على الإطلاق لطبخة رابح رابح، إذ أعلن مستشار الثورة الإسلامية للشؤون العسكرية يحيى صفوي أن إيران والمنطقة تجتازان منعطفاً تاريخياً، تأكيداً لما أعلنه الرئيس روحاني في السابق عن انقشاع ظلال الحرب المشؤومة، فيما أعرب «الإسرائيلي» عقب المفاوضات النووية بحسب مرشد الثورة الإسلامية أن «إسرائيل» تخلصت من هاجس إيران خلال الـ 25 سنة المقبلة، وحتى أشد المتواجهين مع الكيان الصهيوني بات يسعى لصياغة هدنة معه لا تقل عن عشر سنوات، فيما يبث التلفزيون الرسمي الفلسطيني أغنية «وطنية» تقول في مطلعها ازرع زيتون، ازرع ليمون، ازرع تفاح… مقاومتنا الشرعية من غير سلاح .

كاتب فلسطيني مقيم في سورية

mbkr83 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى