إنْ كانوا أنفسهم يضلّلون…!

د. فيصل المقداد

نائب وزير الخارجية السورية

أشعر بالشفقة والحزن إزاء وزراء خارجية أوروبا الغربية والولايات المتحدة الذين يقفون أمام أجهزة الإعلام بهدف وحيد هو ممارسة الكذب والتضليل وقلب الحقائق والتعبئة الفارغة ضدّ الحوادث الجارية في سورية! وما يدعوني إلى إثارة هذه الشفقة وهذا الحزن هو الجهد الضائع الذي يبذله هؤلاء لتركيب الأكاذيب وابتداع الحوادث التي أصبح اجترارها مثار سخرية لدى مواطني تلك الدول بخاصة، ولدى الرأي العام العالمي بعامة.

أما ما يهمّني أكثر فهو الوعي الكبير لحقيقة هذه الأكاذيب وأبعادها من قبل شعبنا العظيم في سورية تحديداً، وفي الوطن العربي والدول الصديقة لسورية على نحو أوسع. ولا أبالغ إذا قلت إنه يكفينا شرفاً أنّ الشعوب التي لا تخضع لتضليل منهجي مدروس تشكل الآن أغلب شعوب العالم وتعي بدقة ما يحصل في سورية. وهذه الشعوب تعرف أنّ ما يحصل في سورية لا يعدو كونه مؤامرة نُسجت خيوطها في دوائر الاستخبارات والسياسة الغربية الصهيونية للنيل من سورية وسيادتها ومواقفها المقاومة وعدم خضوعها لإرادة الدوائر الغربية المتصهينة، ومن يقدم إليها في الغرب الخدمات المجانية لنيل بركاتها ورضاها.

لم يفاجئنا الموقف الغربي إزاء سورية الذي تميّز باللاتوازن والتناقض مع المبادئ التي لطالما روّج لها الغرب، رغم أنّ ذلك فاجأ البعض ممّن ينظرون بطيبة وحسن نية إلى سياسات هذا الغرب. فالغربيّون يهرعون إلى دولنا عندما يكونون في حاجة إليها، وإلى المشاريع فيها وإلى الاستثمارات وبيع أسلحتها ومنتجاتها، وأولاً وأخيراً إلى نفطها وثرواتها. وعندما تسير الأمور في هذه المجالات كما يريدون ويرغبون فإنهم يبتلعون ألسنتهم وتصبح الدول التي تؤمّن لهم مصالحهم وتكاليف انتخاباتهم الأكثر ديمقراطية ومراعاة لحقوق الإنسان. ويبرّرون لأنظمة تلك الدول قمعها لشعوبها ولفساد حكامها وتخلّف قوانينها…

لقد انفضحت سياسات الغرب ومسؤوليه على نحو لا سابق له أثناء الحوادث في سورية، وظهرت حقيقة سقوطهم الأخلاقي سواءً في سورية أو في أوكرانيا، ناهيك طبعاً عن انتهاك الغرب للحدّ الأدنى من العدالة حيال أهمّ القضايا في الشرق الأوسط وهي القضية الفلسطينية.

بعد حوادث الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأميركية عام 2001 تعاقد العالم كلّه على أولوية مكافحة الإرهاب، إلاَّ أننا وجدنا بعض حكام الدول الغربية ووزراء خارجيتها يدعمون المسلحين منذ اليوم الأول لبدء الحوادث في سورية ويبرّرون ذلك بمقولات هزّت منظومة المفاهيم العالمية. فالقتلة في سورية أصبحوا معارضة مسلحة، والإرهابيون في سورية «ملائكة» تجب تلبية مطالبهم وإيصال المساعدات الإنسانية إليهم وعدم محاربتهم!!!

تصوّر الغربيّون وفي مقدمهم الإدارات الأميركية المتعاقبة، أنهم وجدوا السلاح الذي يغيّرون من خلاله أنظمة الدول السياسية والاقتصادية والاجتماعية ألا وهو «الثورات الملوّنة»، وذات الأسماء البرّاقة التي تطلقها الخارجية الأميركية مثل «الربيع العربي» والتي لا يمكن لأيّ كان تغييرها.

قبل أن يقفز البعض إلى استنتاجات خاطئة، أؤكد أننا نحترم حق الشعوب وضرورة احترام سيادتها بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، لكن هل من المصادفة أنّ معظم التغييرات جاءت تلبيةً لسياسات الغرب؟ لقد دافع مسؤولو الغرب عن أمور لا يمكن الدفاع عنها، مستغلّين بذلك أجهزة إعلام خضعت تماماً لإرادة مموّليها وأجهزة استخبارات دول تعطي التعليمات، وما على الإعلام إلاّ التنفيذ بدقة ومهنية.

تخرج علينا الإدارة الأميركية بمقولات إنها السيد، وما على الآخرين إلا التنفيذ. وتكرّر الخارجية الأميركية، ممثلة بوزيرها والناطقين باسمها، عبارة واحدة: «النظام يجب أن يرحل»! وعندها نسمع العبارة ذاتها من دون زيادة أو نقصان في باريس ولندن والاتحاد الأوروبي، وعندما يسأل البعض في مؤتمرات صحافية مبرمجة: «لِمَ على النظام أن يرحل»؟ يأتيك الجواب الغبي: «عليه أن يرحل»! أما أجهزة الإعلام، وبخاصةً التي تملكها دول الخليج لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان ـ فإنها تجعلها العنوان الرئيسي لنشراتها ولكلّ ما سيقوله محللوها المتخصصون في القضايا الاستراتيجية، أو المحللون العسكريون، وهؤلاء إمّا أنهم يعرفون الحقيقة ولا يقولونها أو إنهم جهلة لا يعرفون عما يتحدثون.

فالقيادة في سورية لم تأتِ نتيجة أوامر خارجية، بل نتيجة إرادة الشعب السوري والمصدر الوحيد الذي يحق له أن يقرّر مصير قيادته هو الشعب السوري. ألم يقل الغربيون السابقون إنّ الشعوب هي التي تقرّر مصيرها وهي التي تختار قياداتها؟ ولم تفشل ثورات الألوان في سورية والمنطقة العربية فحسب، بل إنها سقطت في روسيا بعد الانتخابات الروسية الأخيرة، وكانت سقطت في ساحة تيان آن في بكين… ألم يتعلم هؤلاء الدرس؟

يتحدث وزراء داخلية وخارجية وعدل البلدان الغربية الآن حول خطر «الجهاديين» الذين غادروا الولايات المتحدة وأوروبا ودولاً أخرى وارتداد الكثير منهم إلى البلدان التي جاؤوا منها إلى سورية ودول أخرى في المنطقة مثل العراق، ويعقدون الاجتماع تلو الاجتماع للحديث عن ظاهرة الجهاديين وضرورة التصدي لهذه الظاهرة. وأعتقد بل أؤكد، أنّ كل «جهادي» خرج من هذه البلدان كان معروفاً لأجهزة أمن هذه الدول. لكن السؤال المطروح هو لماذا سمحوا لهم «بالجهاد» في سورية؟ والجواب عن ذلك واحد من ثلاثة: فإما أنهم صدّقوا أكذوبتهم بإمكان «تغيير النظام في سورية»، أو إمكان أن يتخلّصوا منهم خارج دولهم، أو تصدير هؤلاء إلى أماكن جهاد أخرى تحدّدها أجهزة استخبارات هذه الدول لاحقاً. اتسمت دبلوماسية وأجهزة أمن هذه الدول بالسلبية حيال أمن شعوبها وتبعيّتها لأهداف «إسرائيل» على حساب دماء شعوبها. ومن المعروف أنّ أجهزة أمن هذه البلدان تراقب كلّ مسلم يذهب إلى المسجد وتعرف عائلته وماذا تأكل، وكم يبلغ دخلها!

اقترف وزراء خارجية الدول الغربية التي استهدفت سورية جريمتين: الأولى في حق الشعب السوري عندما تمادوا في تمويل وتسليح وإيواء وتدريب هؤلاء القتلة الذين حاولوا سفك دماء السوريين وتدمير حضارتهم وثقافتهم وبناهم التحتية واقتصادهم. أما الجريمة الثانية فهي في حق شعوبهم تحديداً في ساحات وشوارع أميركا وأوروبا، إذ ظنّ هؤلاء خطأ أنّ الأمر لن يطول في سورية وما هي إلاّ بضعة أيام أو أسابيع أو أشهر قليلة، في أسوأ الأحوال، ويكلّل الغرب نفسه بتاج تغيير النظام في سورية.

بعد حوادث 11 أيلول أمرت الولايات المتحدة أدواتها في دول الخليج بإغلاق نوافذ تمويل الإرهاب كافة، ونفّذ هؤلاء التعليمات بحرفيتها. وبعد بدء الحوادث وبتعليمات نعرفها، أرسلت المليارات من الدولارات من قبل دول الخليج وتحت أنظار مسؤوليها إلى المجموعات الإرهابية المسلحة لشراء ولائها وتمويل قتلها السوريين. ولمدة ثلاث سنوات تخضع الأموال لعملية ضخ لا حدود لها إلى سورية، ولماذا؟ لقتل السوريين. وعندما صحا قادة بعض الدول ووزراء خارجيتها في الولايات المتحدة وباريس ولندن أنّ بعض الأموال سُرّبت لتمويل نشاطات إرهابية في هذه البلدان، أعطوا الأوامر لوقف ذلك، ونرى الآن تحرّكاً ملحوظاً في هذا الاتجاه.

يذكر القارئ الكريم مهازل اجتماعات ما يُسمّى بـ»أصدقاء سورية»، واجتماعات الجامعة العربية المعيبة، كما يذكر إنكار مسؤولي الدول الغربية تقديم السلاح إلى القتلة والإرهابيين في سورية. وكانوا آنذاك يدّعون أنهم لا يقدمون «مساعدات قاتلة»! سواءً إلى مَنْ أطلقوا عليه «المعارضة المسلحة المعتدلة»، أو الإرهابيين، إلاَّ أنهم وجدوا لاحقاً أنّ «المساعدات العسكرية، وكلّها فتاكة» وجدت طريقها إلى أيادي «داعش» و»النصرة» والتنظيمات الإرهابية الأخرى، لكن من سيحاسب هؤلاء؟

بلى، أشعر بالشفقة على هؤلاء الفاشلين الذين سببوا كوارث لبلدانهم، أو لبلدان أخرى ادّعوا أنهم يسعون إلى حمايتها من أخطار الإرهاب. الإرهاب في العراق الآن دليل على بؤسهم وغبائهم. قالت سورية منذ اليوم الأول أنّ الإرهاب فيها سيخرج إلى المنطقة والعالم، إلاَّ أنّ حقدهم أعماهم عن رؤية الحقيقة. أما منظر كيري وهيغ وفابيوس فهو ليس مضحكاً فحسب بل إنّ هؤلاء الذين لم يؤمنوا بحق الشعب السوري في اختيار قيادته من خلال انتخابات نزيهة وعادلة تمّت وفق أفضل المعايير الدولية، جعلوا من أنفسهم مهزلة بل أصبحوا هم المهزلة.

لا تحتاج سورية إلى من يثبت صحة مواقفها، فالأعداء يعترفون بذلك. يعترفون بفشلهم، ويعرفون في أعماقهم أنهم ارتكبوا جرائم تمثل أمام محاكمهم الوطنية جرائم حرب. وها هي سورية تتابع شرف التصدي للإرهاب نيابةً عن جميع شرفاء العرب والعالم. ها هي سورية تؤكد بعد انتخاباتها الرئاسية أولوياتها في القضاء على الإرهاب وتحقيق الحلّ السلمي للأزمة التي تواجهها مـن خلال حــوار سوري سوري وبقيادة سورية. سورية الجديدة، بعد الثقة التي أولتها لقائدها في الانتخابات الأخيرة، والتي جاء إليها السوريون بملايينهم من كلّ حدب وصوب من أنحاء العالم كلّه، تستعدّ لإعادة الإعمار وتمتين وحدة شعبها الوطنية وتعزيز علاقاتها مع أصدقائها الذين وقفوا معها ضدّ الإرهاب، وزيادة لحمة تحالفها مع صفوف المقاومة في المنطقة والعالم للتصدي للظلم والتضليل وقلب الحقائق. بلى، أشفق على هؤلاء الذين ضلّلوا شعوبهم، بل لأنّهم ضللوا أنفسهم أولاً!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى