بوتين يُفصّل… أوباما يُلبس

د. محمد بكر

أكثر من سنة مرت على تحالف واشنطن الدولي في إطار الاستراتيجية والجهود التي تصوغها الولايات المتحدة الأميركية وتقول إنها مكرسة لمحاربة الإرهاب، لم تفلح على الإطلاق إلا تغذية ً وتنمية ً وتغلغلاً لهذا الإرهاب الذي بات غولاً يتمدد في جغرافيا خارج الخريطة الغربية، وبعيداً من الحسابات الأميركية، أدركت روسيا جيداً حجم المناورات والمراوغات والكذب الأميركي، وماهية استراتيجية واشنطن في التعاطي مع ورقة الإرهاب واستثمارها المستمر فيها، هذه الورقة التي خبرها السوفيات جيداً وخبروا مدى تأثيرها في ساحات الكباش الدولي منذ ثمانينيات القرن الماضي وتحديداً في أفغانستان وكيف كانت العامل الرئيس في انتصار الإمبريالية الأميركية من بوابة القاعدة، وانهيار وتفكك الخصم اللدود الاتحاد السوفياتي، كان لا بدّ من التحرك الروسي هذه المرة أن يأخد أبعاداً مختلفة، وأن يصدّر جملة من الرسائل شديدة اللهجة والعبارات الحاسمة والحضور النوعي، يمضي خلاله الجانب الروسي قدُماً في تقديم معروضه السياسي والعسكري الفريد لجهة ما صاغه من تفاهمات مع الجانب السوري بما يبلور المبادرات السياسية المطروحة، على قاعدة دعم الشرعية السورية في موازاة الأسلحة النوعية التي أعلن الجيش السوري تسلّمها ودخولها حيز الاستخدام في يوميات الميدان، حتى بات الحسم والقطع الروسي أمراً باتاً وناجزاً لا نقاش ولا جدال فيه في شخص الرئيس بشار الأسد نفسه، إذ أكد لافروف أن روسيا مستمرة بدعم الدولة السورية، وأن فكرة إسقاط الأسد هي وهم، فيما امتعض خصوم موسكو ووجدوا في السلوك الروسي تقويضاً لمكافحة الإرهاب وتكريساً لمزيد من العنف، هاجت معه المشاعر «الإسرائيلية» والتركية ليهرول نتنياهو إلى الكرملين لفهم «الملابسات» وكذلك يفعل أردوغان لمعاينة «التطورات»، امتعاضٌ سرعان ما تسارع واشنطن نفسها لتجميله وزركشته للإبقاء على عوامل ومقومات التواصل مع الروسي الموغل في الجدية والحراك غير المسبوق والتصميم فوق العادة لصياغة منظومة دولية حقيقية للإطاحة بالأوراق والمشاريع الأميركية، إذ أعلن البيت الأبيض أن لا حل عسكرياً في سورية، كذلك رحب بما سماه مناقشات وحوارات تكتيكية، وكذلك ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي عن استمرار الاتصالات العسكرية والتعاون الجزئي مع روسيا، سرعان ما يأتي الجواب وعلى لسان بوتين لجهة أن الحوارات السياسية والعسكرية يجب أن تأخذ المناحي الاستراتيجية، إضافة إلى ما كانت قد أعلنته المتحدثة باسم الخارجية الروسية زخاروفا لجهة استعداد بلادها التعاون مع واشنطن لتبديد مخاوف الأخيرة من حصول صدام محتمل بين الجانبين عند الشروع في العمليات العسكرية ضد الإرهاب، لتسد كلّ الذرائع الأميركية والهواجس المصطنعة، وما هي إلا ساعات حتى سارعت واشنطن التي تبدو متلقية فوق العادة لطبيعة وفحوى الرسائل التي يبعثها الروسي، سارعت لرسم صورة فريدة تشي عن حالة مترهلة أقل ما يمكن أن توصف بالهزيمة السياسية، بدت معالمها ومؤشراتها واضحة على سلوك كيري وما همست به لغة جسده عندما أعلن من بريطانيا وقد طفح وجهه بسيل من الشحوب والارتباك متسائلاً بحُرقة: نحن مستعدون للتفاوض، فهل الأسد مستعد لذلك؟ عليه أن يرحل لكن ليس بالضرورة فوراً وليس عليه الرحيل بعد أسبوع أو بعد شهر، المهم أن تجلس الأطراف مع بعضها، وعلى روسيا وإيران أن تقنع الأسد للذهاب إلى طاولة المفاوضات وهناك حاجة ملحة لتجديد الجهود لتسوية سياسية في سورية.

فهل تخلت واشنطن عن غطرستها ومماطلتها وازدواجية معاييرها في الملف السوري؟ وهل ستشرع للانخراط وارتداء ما يمضي الروسي في تفصيله وصياغته؟

يقول ليونيد ايساييف مستشار مجلس الدوما الروسي: «يوجد جيران غير جيدين لسورية، وإن انضمام أميركا لتحالف مع موسكو يجب أن يقترن بتحول في سياسة الجيران ولا يوجد أي خيار آخر لقتال الشر، وعلى الأميركيين أن يفهموا ذلك عاجلاً أو آجلاً، ونحن لا نتناقش مع أميركا في ما يتعلق بداعش بل يجب القضاء على داعش»، وهذا ما يشكل المؤشر الاستراتيجي الذي يتحدد بموجبه إن كان هناك تحول استراتيجي أميركي أم لا، وعليه فإنّ الشروع الأميركي في الضغط على الحلفاء المشتبكين والمنخرطين في المشهد السوري وفي حالة الإرهاب المتنامية فيه هو ما يدلل فعلاً على صدق الطروحات الأميركية، وهذا ما سيعمل عليه الأميركي في اعتقادنا خلال المرحلة المقبلة، وإن كان بخطوات بطيئة يراوغ فيها الأميركي لتحصيل مقاسات أفضل وأقل ضيقاً في عملية التفصيل السياسية التي يحيكها الروسي ويتصدّر مشاهدها ومقاساتها وتوافقاتها، إذ يتلمّس الأميركي يقيناً مقدار التشظي الحاصل في صفوف المعارضة السورية ومدى السوداوية المخيمة على سلوكها وأدائها التي باتت في خبر كان ولا سيما بعد أن «تدعدش» المشهد برمته لدرجة لم تعد تزن فيها هذه المعارضة أكثر من خمسة أشخاص في ميزان وحسبة قائد القيادة المركزية الأميركية، كذلك تدرك الولايات المتحدة المطارح النوعية التي تنوي الاستراتيجية الروسية الذهاب إليها في محاربة الإرهاب والتأسيس الفاعل للحل السياسي في سورية على قاعدة شاء من شاء وأبى من أبى ومن هنا نقرأ ونفهم توقيت ومدلولات التفاهم الروسي حول ماهية المرحلة السورية المقبلة بمعزل عن الإرادات الأميركية، وهذا ما عاد وأكده مستشار مجلس الدوما الروسي لجهة المضي في مكافحة جدية للإرهاب تؤسس لتصفيته وإنهائه بالكامل، وتالياً خلخلة معادلة رابح ـ رابح لمصلحة الروسي.

لدى سؤاله عن مواقف كيري الأخيرة وفي ما إذا كانت الولايات المتحدة ستنجح في الضغط على حلفائها لا سيما السعودية لتغيير مواقفها السياسية، قال مايكل لين رئيس المعهد الأميركي للسياسات الاستراتيجية: «إن تصريحات كيري هي اعتراف أميركي بالفشل في ما كانت تفعله الولايات المتحدة خلال الأربع سنوات، وإن أميركا ستنجح في دفع حلفائها للجلوس على طاولة المفاوضات كما سينجح بوتين في إقناع الأسد بالحل الدبلوماسي الذي سيتمّ الاتفاق عليه بين موسكو وواشنطن»، هذا الحلّ الذي يمضي الروسي باقتدار في صياغته ورسم خطوطه الحمراء حسم فيه الروسي بقاء الأسد وأيقن أن دعمه لدمشق هو الذي حال دون تحوّل سورية إلى ليبيا ثانية، إذ اعتبرت صحيفة «غارديان» أنّ الملف السوري بات بالكامل بيد الروسي، في حين يبقى السؤال ولا سيما في ظلّ المتناقضات المتأصلة في السلوك السياسي الأميركي، وثبات السلوك الروسي والمفاعيل شديدة الأثر لحراكه المتنامي، هل سيلبس الأميركي ما فصّله الروسي؟ ربما لن يجد أوباما الذي أفشلت حزبه المحاولة الأخيرة للجمهوريين في الكونغرس لجهة عرقلة الاتفاق النووي، لن يجد بداًً من ارتداء الثوب الروسي مكرهاًً، لكنه سيعمل جاهداًً على أن تكون الخيوط المحاكة خيوطاً أميركية.

كاتب سياسي فلسطيني مقيم في سورية

mbkr83 hotmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى