حقائق في ذكرى رحيل عبد الناصر وانتفاضة الأقصى

ناصر قنديل

– قبل خمس وأربعين سنة في مثل هذا اليوم غادرنا رجل كان الأبرز في تاريخ العرب المعاصر في التأثير الذي تركه في قلوب الشعوب العربية وفي السياسة العربية والدولية، وما أثاره حوله كظاهرة من جدال وما قدّمته تجربته في القيادة والحكم من مادة للنقاش، هذا الرجل هو بالتأكيد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وقبل خمسة عشر عاماً من مثل هذا اليوم خرج الفلسطينيون في أنصع وأنقى انتفاضة صنعها العرب في التاريخ المعاصر، فلا لبس حولها ولا جدال حول منطلقاتها وأهدافها ووجهة بوصلتها، ولا حول طابعها الشعبي الخالص، ولا حول تعبيرها عن وجدان جمعي للأمة، سواء كانت الأمة سورية أم عربية أم إسلامية، في تعريف من يتحدّث عنها، وهنا الحدث هو الانتفاضة المباركة للشعب الفلسطيني لحماية المسجد الأقصى.

– من المنطقي والواجب أن يحيي العرب على تنوّع مشاربهم وعقائدهم، واختلاف مقارباتهم ومواقفهم هاتين المناسبتين، وقد جرت مياه كثيرة في النهر العربي والفلسطيني، ما يسمح بحسم نقاشات وجدالات كثيرة وتوضيح التباسات أكثر، وأخذ عبر لا يجوز التفريط بها بعد كلّ ما جرى من أحداث وما حدث من متغيّرات.

– لقد أنصف التاريخ عبد الناصر كما أنصف الانتفاضة، فقد كرّس عبد الناصر حياته أولاً ليقدّم نموذجاً للقادة الذين يضعون النزاهة والأخلاق معياراً لممارسة السياسة وجاءت وفاته مصداقاً لتثبيت صدقيته في هذا المجال، وبعد عشرات السنين لا مجال لشك أو التباس في طبيعة الحياة المتقشفة الزاهدة لجمال عبد الناصر كنموذج لقادة تحتاجهم الأمة، حتى بات يمكن للمواطن العربي البدء بالحكم على صدقية أيّ قائد أو متنطح لممارسة الشأن العام تأسيساً على مدى تقيّده بضوابط سلوكية وحياتية قدّم عبد الناصر نموذجاً لها، كما قدّم عبد الناصر نموذجاً للقائد المتفاني في جديته ودرجة شعوره بالمسؤولية، وليس أدلّ على ذلك من جدول أعمال يومي يبدأ من ساعات الفجر ليلاقي ساعات فجر جديد مع مقدار بسيط من الراحة والطعام والنوم، لا مكان للرفاه فيها، لتكون لحظة إعلان تنحّيه عن الرئاسة بعد هزيمة العام 1967 مثالاً على التقيّد بمعايير صارمة للمساءلة والمحاسبة تفتقدها السياسة العربية إلى حدّ يصير فيه الحديث عن استقالة مسؤول في مرتبة أقلّ شأناً بكثير من الرئاسة اعترافاً بمسؤولية عن فشل أو إثر وقوع كارثة حلماً لا يتحقق.

– على المستوى السياسي أنصف التاريخ جمال عبد الناصر بتثبيت فلسطين بوصلة لا مستقبل لمفهوم للأمن القومي والوطني لأيّ بلد عربي متى تاه عنها، وتكريس الاستقلال الوطني كمعيار للقوة، وشرط للحديث عن تنمية أو ديمقراطية أو عصرنة وحداثة لنظام حكم، وها هي خلاصات ومخرجات «الربيع العربي» تحسم كلّ التباس حول هذه الحقيقة، وبثنائية فلسطين والاستقلال يصير ممكناً ترداد أيّ من شعارات عبد الناصر، ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة أو الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى وستبقى، أو لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، أو ارفع رأسك يا أخي لقد ولى عهد الاستعمار.

– في تجارب عبد الناصر حسم التاريخ أجوبة واضحة لصالح عبد الناصر في خيار الاستعداد الدائم للحرب مع «إسرائيل» والتحالف الاستراتيجي مع روسيا وتأميم الثروات الوطنية كقناة السويس والنفط، والاستثمار على بناء اقتصاد منتج واعتماد خيار دولة الرعاية، وفي المقابل حدّد التاريخ خلاصات مزدوجة تجاه التجارب التي كان منها موضع التباسات ونقاشات كتجربتي الوحدة مع سورية والحرب في اليمن، فقد تأكد أنّ المقاربة الرومانسية للوحدة تنتج عكس الرغبات والتمنيات كما حدث في الوحدة بين سورية ومصر، بمثل ما أكد أنّ التنسيق والتكامل بين هذين الكيانين العربيين صمام أمان للمنطقة، فكلما ابتعدا سادت حقبة سوداء، أبرزها الحقبة السعودية، وكلما تلاقيا كان المزيد من المناعة وأسباب القوة وها هي تجربة الحرب على الإرهاب تقول ما لا يحتاج أدلة هذه الأيام، كما في حرب اليمن قال التاريخ إنّ الحرب مع «إسرائيل» لا تستقيم من دون عزل المحور الرجعي العربي وإضعافه لأنه لن يكفّ عن التآمر والتواطؤ، وتشكيل خط خلفي يتكامل مع الخطر «الإسرائيلي»، لكن التورّط في أيّ حروب على أراض عربية ولو من موقع مساندة حق التغيير أو حماية أمن قومي تتحوّل حرب استنزاف تستهلك فائض القوة الذي ينمو في الحرب مع «إسرائيل»، فكيف عندما تخاض الحروب بالتكامل مع «إسرائيل» كما هي حرب اليمن التي تخوضها السعودية اليوم.

– أنصف التاريخ جمال عبد الناصر في الإشكالية التي رافقت قرابة العقدين من حكمه لمصر والمتصلة بالأزمة التي حكمت علاقته مع تنظيم «الإخوان المسلمين»، فقد نال «الإخوان» فرصتهم للحكم في ظروف أفضل لصالحهم بكثير مما أتيح لجمال عبد الناصر، فقد حكم «الإخوان» مصر وجناحهم الفلسطيني الذي تمثله حركة حماس قد نجح في تحرير قطاع غزة من الاحتلال، والمقاومة في لبنان وفلسطين قد أقامت ميزان ردع في وجه خطر الحروب «الإسرائيلية»، وكان «الإخوان» قد فازوا بحكم مصر وتونس وهم يحكمون تركيا، وفي زمن تقف فيه إيران في وجه «إسرائيل» والهيمنة الأميركية، وكانت النتيجة وبالاً مرتين… مرة بفشلهم في الاحتفاظ بالحكم لأشهر معدودة دلالة على هشاشة مشروع وسرعة انكشافه وسقوطه مع سقوط كامل لادّعاءات بقيت تتردّد قرناً كاملاً، والأهمّ أنّ انكشاف أمرهم كفصيل خلفي يعمل ضمن المنظومة الأميركية الملتزمة بأولوية أمن «إسرائيل» كان فضيحتهم المدوية، بدءاً من تعهّدهم تخريب كلّ مصدر قوة عربي في وجه «إسرائيل»، من دورهم في سورية ورعايتهم لقوى التطرف في وجه المقاومة في لبنان، وصولاً إلى حربهم المفتوحة اليوم على الجيش المصري.

– مثلما أنصف التاريخ عبد الناصر كنموذج لقادة حركات الاستقلال الوطني وقدم العبر والمثال حول مسيرته ومن وحي سلوكه الشخصي، أنصف التاريخ انتفاضة الأقصى كتعبير تحتاجه فلسطين والأمة بمقدار متساو، فلا أمل يُرتجى لتحرير أو حماية لحقوق ومقدّسات بلا البقاء في الساحات، ولا شيء يوحدنا ويجمعنا ويطفئ نار الفتنة التي يُراد إشعالها إلا ارتفاع شعلة فلسطين ومقاومتها عالياً، وهذه العبرة تصير مضاعفة مئات المرات في زمن الخطر المحدق بالأقصى والفتنة التي تتهدّد الأمة هذه الأيام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى