استبداد الجغرافيا وذكاء التوقيت يصنعان نصر سورية

ناصر قنديل

– يجمع علماء الاجتماع السياسي منذ إبن خلدون على أنّ التاريخ تكتبه الجغرافيا بقوة تشكل المخزون الحضاري لما يتجمّع عليها من موجات سكانية، تتشكل منها المدنية، والقصد هنا ليس نقيض العسكرية، بل إطارها المجتمعي، فالنسبة للمدن، وليست للترادف بين اللباسين المدني والعسكري، والمدنية هي الانتقال بالمجتمعات إلى السياسة، حيث القوانين والدواوين والحكم، والجغرافيا التي تستبد بالتاريخ وتصنع ملامح حركته، تستقوي بإرادة الإنسان في ترويض الطبيعة وكوارثها ومصادر هيمنتها بوفرة وشح الموارد وقسوة الطقس ومرونته، وملاءمتها لمراكمة الثروات والتعاقب السلس للفصول، وانتظام دورة الحياة الهادئة التي تتيح التنقل والتجمع، وبالتالي حركة الأسواق والتعليم والشرطة، وهي ملامح المدنية. والحروب بطبيعتها وأصل نشوئها، زحف الموجات البشرية من الأسوأ إلى الأفضل في الجغرافيا، ومخزون الموارد المتراكمة، وملاءمة الطبيعة للحياة الأشد وفرة وسلاسة واستقراراً وانتظاماً، والغزاة عموماً ينتصرون لقوة الحافز وكثرة الجمع وشدة البأس من شظف العيش، واقترابهم من القطيع، بينما المدنية تصير تجمُّع أفراد، لكن تراكم الموجات البشرية بطبقات تشبه طبقات الجيولوحيا في الأرض، تنتج بالتتابع مرحلة من المدنية الصلبة التي تبدأ بالتمرس بالقتال وتبني أمنها في مدى حيوي يبعد منشآتها وموارد حياتها المستقرة عن ميادين الحروب المتوقعة وتبني قلاعها وتنشر وحداتها وسلاحها وتطور تقنياتها وتكتيكاتها، حتى تصل حد خوض الحروب الوقائية، ومع الاستقرار التاريخي لتشكل الأمم والدول تصير الأمم المستقرة في الجغرافيا المستبدة بتفوق مميزاتها موضع طلب دائم للحروب، تتطلع نحوها الأمم الصاعدة كجوائز دخولها عالم الإمبراطوريات، وتصير قوتها ضمانتها للاستقرار، فيصير العُسْر وتصير الجيوش قلب المدنية وليس نقيضها، وحيث لا عسكرية وطنية تاريخية عريقة لا دولة، وحيث لا قادة جيوش عباقرة، لا أمن واستقرار، وحيث لا تنفق الموارد لبناء الأمن لا وفرة ولا رفاه.

– تركز مفعول الثورة الصناعية وفورة التكنولوجيا والمال في القرنين التاسع عشر والعشرين على ردم الهوة بين المدنية والغزو، عبر محاولة اغتيال الجغرافيا وإلغاء دورها في صناعة التاريخ، وتحويل الزمن إلى عامل ثانوي تتحكم به مصادر القوة التي يوفّرها المال والتكنولوجيا لأصحاب الغزوات، وتشكلت من الدول الناتجة عن مشاريع استيطانية للقراصنة وصائدي الفرص والمشعوذين وحثالة المجتمعات، قوى حاكمة بقوة المال والتكنولوجيا، فكانت دولة جنوب أفريقيا العنصرية وكانت «إسرائيل»، لكن قبلهما كانت أميركا، فسخّرت لثورات تكنولوجيا ردم المسافات بين الأمم كل قدراتها، ووصلت وسائل النقل العملاقة إلى الفضاء وبشرت بعهود جديدة، وتلاشت المسافات وولدت ثقافات، قوامها العالم بات قرية صغيرة، وسقطت الهويات الوطنية والقومية، وترنحت العقائد، وتمرّغت القضايا المقدسة والنبيلة بتشويهات الشعوذة، وظهرت فلسفات من نوع نهاية التاريخ. والقصد نهاية الجغرافيا المستبدّة بالتاريخ ليستبدّ به ثنائي المال والتكنولوجيا، وصارت منظمة التجارة العالمية، بديلاً للأمم المتحدة، وصار تنقل وتموضع وإقامة البضائع والصكوك المالية أشدّ يسراً وسهولة وسرعة من حقوق البشر المتساوين نظرياً في قريتهم العالمية المولودة بالتنقل والإقامة، وظهر مع تبييض الأموال، تبييض الإرهاب، وتبييض الاستبداد، وتبييض الاحتلال، فيمكن للإرهابيين أن يوصفوا بالمقاتلين من أجل الحرية، كما هو حال تنظيم «القاعدة» في سورية بعيون الغرب كله، ويمكن لحكم آل سعود أن يجد مقعداً وثيراً بقوة مخزونه المالي بين الدول الديمقراطية، ويمكن للاحتلال «الإسرائيلي» أن يحظى على مرّ السنين بحماية الفيتو الدائم في مجلس الأمن المؤتمن على حقوق الإنسان، وصارت الحرية والديمقراطية، القيمتان الساميتان لفجر الثورة الصناعية اللتان انطلقتا مع الفلسفة المجدّدة لروسو وإشراقات الثورة الفرنسية، سلعة تكنولوجية ومالية لها وصفات جاهزة للاستخدام والفوز، بمعزل عن إرادة الشعوب ولكن باسمها.

– ضربت الجغرافيا والتاريخ موعداً مع ثنائي التكنولوجيا والمال، في منازلة في العام 2006 في جنوب لبنان، وكانت نتائج الاختبار قاسية، لكن التوقع للمسار الناتج عن هذا الاختبار أشد قسوة من المنازلة الآتية، كلما تأخّرت، فالانتظار أكثر يعني أن يعقد الزمن مؤامرة مع الجغرافيا، فتأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فكانت غزوة الربيع العربي بقوة المال والتكنولوجيا، وتحت عباءة من صناعتهما، للديمقراطية المعلبة في صناديق الكوكاكولا والهمبرغر والحرية المبوّبة على إيقاع أغاني الراب ولوغو الفايسبوك والتويتر، والموعد المقبل في سورية لمنازلة يجب أن تحسم المسارات بغفلة من الزمن، قيمكن لحمد أن يقول من وراء ناقته كما يمكن لأوباما أن يقول من وراء مركبته الفضائية جملة واحدة، إنّ قلع الرئيس السوري من كرسي الرئاسة أهون من قلع الضرس من الفم، وها هي الجغرافيا تستبدّ وتحكم، وها هو الزمن يتلاعب بأشرعة سفن اللاعبين، وتدور رحى الحرب لسنين، فتصمد العسكرية الوطنية السورية، وتلاقيها العسكرية الوطنية الروسية، والعسكرية الوطنية الإيرانية المتجدّدة بقوة الثورة، وتنتظر جميعاً موكب العسكرية الوطنية المصرية التي تأخر انطلاقها، وتدور المساعي لترميم عسكرية وطنية عراقية جرى اجتياحها وتدميرها من قبل جحافل المال والتكنولوجيا ويسعى التاريخ والجغرافيا لإعادة تشغيل مولداتها.

– الجولة التي تدخلها منطقة الشرق الأوسط برمّتها من بحر قزوين حيث انطلقت أمس الصواريخ الروسية، إلى البحر المتوسط، حيث سقطت قبل عامين الصواريخ الأميركية، هي جولة فاصلة بين ثنائي المال والتكنولوجيا مع ثنائي التاريخ والجغرافيا، وليست مجرد حرب تحرير سورية من الإرهاب، ولا مجرد حرب حماية سورية من السرقة والتقسيم، بقوة الجغرافيا وحسن التوقيت وذكاء الخداع الاستراتيجي، تتشكل عناصر لوحة يكابر الأميركيون في محاولة إنكارها، رغم أن أول من قال بالمعادلة الجديدة كان أحد حكمائهم، رئيس مجلس العلاقات الخارجية ورئيس تحرير مجلة نخبهم الذكية «فورين أفيرز» ريتشارد هاس بعد حرب تموز 2006، الاختبار الذي جرى بلحم ودم وفي أرض وتراب حقيقيين، بحيث لم يكن متاحاً إخفاء فضيحة هزيمة ثنائي المال والتكنولوجيا فيه، ففي عدد تشرين الثاني من العام نفسه كتب ما تلاقى مع خلاصات توصيات لجنة بيكر ـــــ هاملتون التي مثلت الحزبين الأميركيين، وصدرت بالتوقيت ذاته، فقال في فلسفة استراتيجية ما قالته التوصيات بواقعية السياسة، قالت التوصيات، انتهى زمن إدارة الظهر لروسيا، وزمن إنكار إيران نووية، وانتهى زمن تجاهل سورية كلاعب إقليمي كبير، والاعتراف بهذه الحقائق بداية تصويب مسار السياسات الأميركية، وقال هاس، انتهى زمن القوى الدولية العظمى بقوة الجغرافيا، فصارت الدولة الإقليمية الأقرب هي الدولة العظمى في مداها الحيوي، وصارت الدولة العظمى عاجزة عن تحقيق الانتصارات، كلما عاندت الجغرافيا، واستخلص هاس بالقول، إننا نعود إلى معادلات منتصف القرن الثامن عشر في الشرق الأوسط، حيث لاعبون مثل محمد علي باشا يبدون أشد قوة من دول إمبراطورية مثل فرنسا نابليون وتركيا العثمانية، عندما تكون الحرب في بلاد الشام، حيث تلاقي الحرب مشيئة الشعوب وقراءاتها لمصيرها.

– الجغرافيا تقول كلمتها اليوم، وتستعيد مجد صناعة التاريخ بذكاء الزمن، الذي استنفده الأميركيون وحلفاؤهم في رهانات وأوهام جرى اختبارها جميعاً، فيأتي التوقيت، بعدما صارت الحرب على سورية، حرباً على الإرهاب، وهم جلبوه وهم صنعوه وهم صنعوا شعار الحرب عليه، ليقدموا لروسيا الأصيلة في الجغرافيا، العدو والقضية والشعار، حيث لا يملك أحد أن طريقها في تأدية ما فشلوا في تأديته تحت شعار الدور النبيل، ويأتي التوقيت، بعدما بدأ أفول الإمبراطوريات الافتراضية التي رعت الحرب وشنتها وموّلتها ورعت تفاصيلها وجعلتها إنجازها المرتقب لوليمة الشرق الأوسط الجديد، من سلطنة الوهم إلى مملكة العزم وفرنسا التي لا تظهر و«إسرائيل» التي لا تُقهَر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى