تصويباً لحديث هيكل: ليست لمصر قيادة استراتيجية

هاني الحلبي

يتم تداول تعابير شعبية رائجة ينقصها التدقيق الفكري والفحص العقلي عن الشقيقة مصر، بخاصة تعبيرَي «أم الدنيا» و«ست الدنيا»، وإن دلّا في وجه ما على الشعور بالانتماء لكنهما ينطويان على مبالغة، هي سمة تَسِم الفكر العربي عادة عندما يقيّم الذات. ومن وجوه هذه المبالغة البحث عن مركز تدور حوله الأطراف، كما ترى أوروبا في نفسها قياساً للعالم كذلك يرى المصريون إلى مصرهم قياساً للعرب.

وحافز القول هو أن المفكر الكبير محمد حسنين هيكل، يُدلي بحديثه الممتد على حلقات مصر أين وإلى أين؟ ، لقناة سي بي سي المصرية، تنشغل به وسائل الإعلام لغناه وقيمة هيكل الفكرية والإعلامية، من عصارة خبرة إعلامي كبير ومفكر من سويته. وتم عرضُ آخر حلقة منذ ثلاثة أيام، وهي موضوعُ نقاشنا هنا.

قال هيكل في الحلقة المشار إليها «إن هناك قصوراً مصرياً تجاه سورية» وهذا يعني أن «مصر لا تبادر بل تنتظر الآخرين حتى يتصلوا بها». فوجدت نفسها وحدَها في المواجهة وهو ما زاد من قلقها ومشاكلها التي «استغلتها القوى الدولية للنفاذ إلى داخل سورية. وعندما تكون سورية معرّضة للخطر فإن أبسط شيء يمكن عمله هو طمأنتها بأن مصر تقف إلى جانبها لكي لا ترتكب أي أخطاء».

وأرجع هيكل خطأ مصر وقصورها إلى قبولها المنفرد بـ«وقف إطلاق النار في حرب تشرين العام 1973 فأخطأت، لأنها دخلت الحرب إلى جانب سورية، ولكنها خرجت وحدها في السلم، وهذا ما لم يصنع سلاماً في المنطقة». وأعاد الخطر على سورية إلى الخطر الصهيوني وليس الإيراني، داعياً القيادة إلى التواصل مع السوريين كافة، بمن فيهم الحكومة لتوجيه خطاب مطمئن وإدارة حوار سوري سوري منتج.

والأمانة تقتضي الإقرار بنبل الاعتراف بقصور مصر، الذي أعاده هيكل إلى موافقة قيادتها على وقف إطلاق النار في 22 تشرين الأول 1973، لكن وصفه بالقصور غير دقيق، لأنه غدر يقارب الخيانة. كمن ينزل وصديقه بئراً عميقة ويقطع حبله المدلى به قبل بلوغ القعر أو العودة إلى الأعلى. حتى قال السادات في خطابه في الكنيست الإسرائيلية، إن الحرب عنده هي للتحريك لا للتحرير، ولما هدف التحريك تحقق فلمَ الاستمرار لتحرير ما تم احتلاله من عدو لا يفهم سوى القوة؟ وفي سياق التحريك، هل المهم هنا هو التحريك بحد ذاته أم: من أين تحرِّك وإلى أين تحرِّك ومن أجل ماذا تحرِّك؟ حرّكت الجبهة وركود السياسة نحو عبودية «المعاهدة»، إذ كانت قبلها حرة من أي التزامات ثنائية مع إسرائيل وثلاثية مع إسرائيل والولايات المتحدة فقيّدت حركتها بـ«معاهدة» عزلتها عربياً ولاحقاً عن أفريقيا وآسيا، بسبب تضخيم وهم الأوربة والتغرّب. كتجربة الانفصام التركي نفسها إنما بلكنة مصرية!!

بل القصور المصري الحقيقي كان خلال ما سُمي عهد الوحدة المصرية السورية، عندما نظرت مصر لنفسها أنها الأم وسورية البنت المحتاجة للرعاية والحنو والانتداب عنها ما قبل الرشد، وغدا تعيين مختار في آخر قرية في محافظة الحسكة تلزمه موافقة من البيروقراطية المصرية في القاهرة. لم تنظر مصر إلى سورية أنها شريكة حقيقية، لا حينها ولا بعدها ولا الآن. أية علاقة تختزن مفهوم التابع أو الملحق محكومة بالانفجار. وهذا أهم أسباب سقوط الوحدة التي كانت حاجة استراتيجية عربية ملحّة للرد على المشروع الصهيوني التاريخي. مفهوم التابع أو الملحق الذي ينِم عنه قول هيكل حرفياً «أن مصر تقف إلى جانبها لكي لا ترتكب أي أخطاء» وكان العلاقة بين مصر وسورية هي علاقة مدرِّب بمتدرِّب.. وكأنه دعم لمنع القيادة السورية من ارتكاب الأخطاء المتوقعة بسبب ضحالة تجربتها، بينما الواقع يثبت العكس. أكان في عهد الرئيس حافظ الأسد أم في عهد ابنه الرئيس بشار الأسد، والحصار الذي واجهته سورية منذ العام 2000 والحرب التي يتم شنها عالمياً عليها منذ خمس سنوات ما كانت لتحتملها مصر!! حافظت سورية في حرب تشرين على نبلها وكرامتها، كما حافظت في صمودها الأسطوري الراهن على كرامتها وبراعة قيادتها وحسن اختيارها الحلفاء ذوي الوزن والتأثير المهول دولياً وعالمياً والأوفياء كفاية في حروب المصير.. هل مصر قادرة أن تتحرر من ارتباطاتها، وخطط إلحاقها بالخطط السعودية والإسرائيلية لتكون سيدة كما يليق بها؟ فلا تقبل ضمها هاتفياً إلى الحلف الإسلامي، ولا يرضى الرئيس السيسي ملاقاة الملك السعودي السابق إلى طائرته في مطار القاهرة ولا يأتي الملك عبدالله إلى مقر السيسي. لماذا تقبل مصر هذا التفريط، بنظرتها لنفسها، قبل كل شيء، وبنظرة الآخرين إليها؟ إذا كان سر هذه التابعية المصرية هي المليارات الخليجية وودائعهم المصرفية، فإنها لن تسدّ عن مصر جوعها، بل تفقدها ما هو أهم الاطمئنان على أنها دولة سيدة لا يتم شطب كرامتها وقوانينها وتاريخها بشحطة قلم على شيك نفطي؟

يمكن لمصر أن تكون دولة قائدة مشاركة في الإقليم العربي، وليس دولة قائدة متفرّدة فيه، فلا يمكن لها أن تقود من دون المشاركة الندية مع سورية. في هذه الحال تكون خياراتها القومية والعربية والإقليمية مفتوحة لو توفرت لها قيادة مستحقة واستراتيجية، قيادة فريق تكنوقراط مجلسي، تمأسس دولة الثورة وترسخ خطط التنمية وتفعّل السياسة وتحدّث الجيش وتعدل بين الشعب، فلا تستعيد الظلم ولا فبركة «المؤامرات» ككل نظام أمني، ولا إقصاء حزب الوفد، أكبر الأحزاب المصرية حينذاك، ولا عزل قائد الثورة التقني بطريقة مذلّة ولا اختزال الضباط الأحرار بقائد فرد حوله انتهازيان السادات وعبدالحكيم عامر، مهما كان موهوباً ولامعاً، بينما يعتكف الآخرون أو يتم إقصاؤهم بالتدريج.

ويحسُن بالفكر السياسي المصري أن يتوازن في نظرته إلى وطنه ومكانته، وفي نظرته إلى هذا الفكر نفسه ودوره ومسؤوليته في إنقاذ مصر إلى رسالتها التاريخية الحقيقية!!

ناشر موقع حرمون

www.haramoon.org gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى