هويّة العَمَارة… انتماء الذات وعولمة المكان

نظام مارديني

«إهداء إلى المهندس المعماري اللبناني مكسيم جوليان»

تعّلمتُ منك أنّ العمارة التي لا تسترعي الانتباه تحملُ سرَّ قوة وفاتها. والمهندس الذي لا يسترعي الانتباه، قد يُقيم سقفاً أو جداراً، ولكنّه لا يبني عمارة بهويّة أو من روح!

كيف يمكن أن نفهم هُويَّة العمارة في بلادنا؟ سؤال لطالما شَغَل مهندسي المدن ومبدعيها والعمارة هنا لا يمكن النظر إليها من وجهة نظر المهندس مكسيم جوليان إلّا باعتبارها أحد أرقى الحقول المعرفية وأكثرها تعبيراً عن تفاعل الإنسان مع الزمان والمكان الذي يحيا فيه.

تتجلّى هُويَّة أيّ مجتمع من خلال روحه، وتعكسها على العمارة والفنون والتراث. وتستمر باستمرار هويّة هذا المجتمع، وتتطوّر بتطوره، وتنهض بنهوضه، وتتفكّك بتفكّكه. لذلك فإنّ البحث عن هويّة العمارة هو بحث عن روح المجتمع.

فقد لجأ الإنسان في كل المجتمعات البشرية بعد استقراره إلى تسخير معطيات المكان في تحقيق متطلّبات الحياة، بدءاً بالتفاعل المتنامي بين الهويّة الثقافية والهوية المعمارية من خلال مسارات ومستويات مختلفة.

وبكون لبنان له هويّته الخاصة في بناء العمارة إلّا أنّ هذه الهويّة لا تتمثّل بفصائل الدم، بل بمعطيات الحضارة، فإنّ قراءة تاريخ العمارة تجب أن تبدأ بقراءة تاريخ انتمائه إلى حضارة ما، لأنّ بناء العمارة القديمة هو جزء من كيان المجتمع ولعل مثال العمارة في مدينة جبيل شاهد على التصميم المتفرّد. هي إذاً، وسيلة مبتكرة لربط الحاضر بالماضي، والعلاقة بين التقليد والابتكار، المعاصرة بروحية التراث. حين يمرّ الزائر قربها، لا بدّ وأن ترتسم ابتسامة على مُحيّاه، ليس لروحيّة الشكل فقط، بل لأنّها بهجة تشي بالحياة الدائمة، التي تشيع الإلهام والطمأنينة.

بهذا المعنى، فإنّ هويّة العمارة تعني انتماءها إلى حضارة معيّنة خلفتها أمة معيّنة ومجتمع معيّن. ولكن القطيعة الطويلة الأمد التي حدثت بين ثقافتنا المعمارية الراهنة وبين تاريخنا المعماري الحضاري، أورثتنا جهلاً بالتراث ورفضاً له، وحقّقت فرصاً لتسرّب الثقافات الوافدة والدخيلة التي غيّرت شكل ثقافتنا وعبثت بجوهر حضارتنا، وهكذا أصبحت عمارتنا غريبة عنّا، بعدما أخذت شكل دمجٍ للوظائف كما هو دمجٌ للناس، بحيث لم تقتصر علاقات التفاعل بين الإنسان والمكان على تأثير الإنسان على المكان فحسب، بل إنّ المكان حفر في الإنسان خصائصه وملامحه، بعيداً عن الأشكال التي تبدو أشبه بـ»ماسك» معماري لا يعبّر عن هويّة المجتمع اللبناني، كما يقول المهندس جوليان.

ندرك أنّ مفهوم العمارة، ومنذ الثورة الفرنسية 1789 1799 وما بعدها، أخذ يتأقلم مع فكرة أن تكون فانية مع الإنسان. فهي لم تعد تُشير إلى حضارة المجتمع، بل تعبّر عن حاجاته، لذلك يمكن تحديد عمر المبنى راهناً بأنّه لا يتجاوز الـ50 سنة، خصوصاً بعدما أخذ أشكالاً عمودية أو أفقية تجارية، كتلبيةِ حاجات العائلات والأفراد ليس إلّا.

ولكن هذا التوجّه في هويّة العمارة سرعان ما أكّد إلى أنّ هناك إشكالاً ثقافياً مُضمَراً في علاقة الإنسان الرّاهن بمدنه، بخاصّة عمارتها. وكثيراً ما طفى هذا الإشكال على السطح عندما واجه هذا الإنسان نوعين متناقضين من الخطاب تجاه تاريخه وتراثه وهويّة العمارة في وطنه، وفي وقت لا يزال يعدّ الحاضر عاجزاً عن زحزحة الماضي، بحيث أنّ كثيراً من المباني المشيّدة بالأحجار لا زالت تحمل كتابات، وتكاد تُباد لغتها وحروفها.

ولكن السؤال يبقى، إذا كان العصر الذي نعيش أكثر انفتاحاً على ثقافات العالم، وأصبحت العمارة جزءاً من عولمة الثقافة، فكيف نستطيع تحقيق انتماء حضاري في العمارة الحديثة؟

لطالما عبّر المهندس جوليان عن تذمّره وهو ينظر إلى مدن وقرى الجنوب خلال رحلته إلى ضيعته، كيف أنّ هذه القرى والمدن بدأت تعبث بها الفوضى وهي بلا هويّة حضارية أو معمارية واضحة. إذ لم يبدُ على هذه القرى والمدن مَلمحٌ من ملامح التخطيط والإعمار، ولا التعمير بشكل واضح ومدروس. فما زالت القرى والمدن تبدو مخرّبة وكأنّها خرجت للتوّ من خراب الحروب! وما نشهده اليوم من قناطر وشواحط وترقيع ودهان على الجدران ليس إلّا طريقة مزوّرة للإعمار، وتشويه غير مسؤول مبنيّ على أساس مادي وتجاري، ما أنتج أشكالاً هجينة ومتناقضة وغريبة عن تاريخ المدن وهويّتها.

ما نحتاجه، كما يرى المهندس جوليان، هو دراسة جديدة وبرؤية علمية للأسُس والقِيم التي تحكم التصميم الحضري للمدينة من جانب، والعمارة والتعمير من جانب، فتحقيق «هوية المكان» لا يكون إلّا عندما يرتبط العقل والجسد البشري والمدينة وعمارتها بانسجام في فضاء واحد وهذا من شأنه أن يجسّد أهمية كبيرة للتخطيط الحضري والعمراني للمدينة.

الهويّة الثقافية ترتبط بشكل مباشر بالهويّة المعمارية، حيث أنّ الناحية «السيكولوجية» التي يحملها المجتمع، والصورة الذهنية في ثقافة لبنان ومحيطه الطبيعي، تتعلّق بتكوّن الهوية المعمارية وخصائصها التي تميّزت عن غيرها، وفي هذا الصدد يقول المهندس جوليان، «إنّ ما تتضمّنه هويتنا المعمارية هو تعبير عن الوعي بالهوية الثقافية، وفهم المجتمع وانتمائه لهويته الوطنية»، ما يعني أنّ علاقة الهوية الثقافية للمجتمع والهوية المعمارية تتبع المكان، ويمكن القول، إنّ روائع العمارة في لبنان تنطلق من الصورة التاريخية للمعماريّين، حيث انعكست الهوية الثقافية على وجه الخصوص في الهوية المعمارية، فبرز خلال الفترات التاريخية فن العمارة في مختلف أنماطها.

فمفهوم المهندس جوليان للعمارة يتبع دلالات المكان في تعزيز انتماء الهوية المعمارية لثوابتها الوطنية. ويمكننا القول، إنّ الهوية المعمارية تندثر حين لا ترتبط بالدلالات المكانية والثقافية. وفي عصرنا الحاضر شكّلت وحدة الأرض أهم دعائم ملامح الهوية المعمارية وتعميق جذور العناصر والخصائص المعمارية وانتمائها ودلالاتها المكانية.

هكذا تركّزت الهويّة على الخصائص المعمارية لمختلف الأنماط، فسلوك المجتمع اللبناني المشرقي السوري يختلف عن سلوكيات أي مجتمع آخر. وهذا التميّز نجده في فكرة العمارة التي قامت منذ البداية على تأكيد أنّ المعماريين فنانون أكثر من كونهم مهندسين في ذلك الوقت، الأمر الذي أدّى إلى تطور الهوية المعمارية حتى تشكّلت كهوية مجتمعية مرتبطة بثقافة المجتمع وهويته الثقافية.

ولعلّنا نأخذ المعماري العراقي المبدع رفعت الجادرجي كمثال لكون المعماريين فنانين أكثر من كونهم مهندسين، فقد كان فناناً تشكيلياً رائداً، ومصمّماً استثنائياً، وباحثاً ثاقباً. لقد وصل رفعت الجادرجي بالعمارة التقليدية، كما يُطلق عليها، إلى المستوى الشكلي التجريدي، وأصبح ينظر إليها كمنحوتة فنية لها خصائص تقليدية مجرّدة، حسب مفهومه المستوحى من الحداثة.

عمارتُنا سجلُّنا الروحي، فهي تكتنز ذخائرَ تاريخنا، وفيها عُجِنتْ أرواحُ مبدعينا وقلوبُهم!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى