الملف السوري بين الإبداع الميدانيّ… والتحرّك السياسي

العميد د. أمين محمد حطيط

يرى البعض أنّ هناك سباقاً محموماً في سورية بين العمل في الميدان والسعي إلى تطبيق القرار 2254 المتعلق بالعملية السياسية التي جاء القرار الدولي ليعتبرها المخرج من الأزمة التي أُدخلت فيها البلاد منذ 5 سنوات. وقد يكون لهذا البعض من الحجج ما يراه كافياً لدعم وجهة نظره، لكننا لا نرى أنّ الأمر بهذا الشكل، فسورية منذ أن تحققت بأنها مستهدفة بعدوان إرهابي سارعت إلى التمييز في المواجهة بين مسارين:

ـ مسار سياسي إصلاحي هو من شأن السوريين أنفسهم ووحدهم ولا يكون للخارج سلطة القرار والفرض عليهم فيه، بل جلّ ما يُقبل من الخارج هو النصح والمساعدة في إنتاج البيئة التي تمكّن من اللقاء والتباحث أو التفاوض السوري – السوري.

ـ ومسار أمنى عسكري لمواجهة الإرهاب الذي شاركت دول العالم في إنتاجه والاستثمار فيه، بدءاً من الدول الإقليمية القريبة كالسعودية وتركيا، وصولاً إلى الدول التي تدّعي حرصها على الأمن والسلام العالميين وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وعلى هذا المسار تكون المسؤولية مشتركة بين سورية التي يُعتدى عليها وبين كلّ من ساهم بالعدوان قريباً كان أو بعيداً.

وهنا كانت سورية وحلفاؤها في محور المقاومة ثم روسيا، متمسكين بهذا الفرز، ولا يتقبّلون فكرة الخلط بينهما، خاصة أنهم استطاعوا أن يُقنعوا العالم، ولو بعد حين بأنّ الإرهابي ليس طرفاً في أيّ حوار أو تفاوض أو عملية سياسية، وأنّ التعاطي معه لا يكون إلا في الميدان للإجهاز عليه أو حمله على إخلائه. وقد سلّم العالم بهذا الفرز ظاهراً وجاء القرار 2253 المتعلق بالحرب على الإرهاب منفصلاً وسابقاً للقرار 2254 المتصل بالعملية السياسية.

لكن هذا الفصل النظري لم يُعمل به في أرض الواقع، لأنّ الخارج الذي يتدخل في الشأن السوري يعرف انه إذا تمّ تجريده من سلاح الإرهاب يفقد التأثير على مجريات الأمور السياسية، وهنا بدا الدور السعودي والتركي بشكل صارخ من خلال التدخل بتشكيل وفد المعارضات السورية إلى مؤتمر جنيف الذي نص عليه القرار 2254. حيث تمسّكت السعودية بفصيلين إرهابيّين أساسيين يسيطران على أجزاء من الأرض السورية، منها ما يتصل بريف دمشق ويؤثر على أمنها أحرار الشام في دوما شمالي دمشق ، كما حاولت تركيا التمسك بفصائل إرهابية تعمل في الريف الشمالي للاذقية.

أما سورية صاحبة نظرية الفصل بين المسارين مع وجوب الاستمرار في مواجهة الإرهاب وبكل قوة متاحة، لمنعه من الاستقرار والتجذّر والتحوّل إلى حالات سياسية مؤثرة، فإنها استفادت من تسليم العالم بمنطقها واستندت إلى قوتها الذاتية وقوات حلفائها في محور المقاومة وروسيا، واندفعت ضدّ الإرهاب في حرب شاملة متعدّدة الجبهات حققت من النتائج خاصة في الأيام العشرة الأخيرة أيام الإعداد لمؤتمر «جنيف 3» – ما أذهل المتابعين ووضع الخصوم والأعداء أمام مشهد ملخصه أمران:

1 ـ الأول: إنّ سورية ماضية في حربها على الإرهاب لتطهير البلاد منه، وإنها مع حلفائها قادرة على تحقيق المهمة، وإنّ المسألة مسألة وقت، فإنْ واكبها الإقليم والعالم في مهمتها اختصر الوقت إلى حدود دنيا، وإنْ تمنّع فإنها ماضية، رغم ما يمكن أن تتطلبه العملية من وقت إضافي.

2 ـ الثاني: إنّ العملية السياسية التي تبتغيها وترحب بأيّ مساعدة في مضمارها لن تكون جسراً للنيل من وحدة سورية أو قرارها المستقلّ ولن تكون معبراً لاستعمار إقليمي أو أجنبي يمارَس عليها.

ومع هذه الصورة المختصَرة لا تبقى قيمة معتبرة للنزاع حول تأليف وفد أو وفود المعارضات السورية، سواءٌ حضر مَن حضر أو استُبعد من استُبعد، فسورية في هذا المجال ماضية وعلى الخطّين معاً الميداني وتثبت جدارة وقدرات فائقة فيه، والسياسي، حيث تسير بمن حضر ممّن تقبل به محاوراً أو مباحثاً بالشأن السوري الداخلي. ومن السّخف أن يُقال أو يُعاد إلى القول بأنّ المباحثات في جنيف أو أيّ مكان آخر برعاية دولية عامة أو خاصة ستفضي إلى فرض قرار لا توافق عليه الحكومة السورية.

فالحكومة السورية متسلّحة بدعم من الشعب السوري أولاً، ومستندة إلى قدرات عسكرية ذاتية ثانياً، ومطمئنة إلى قوة إسناد ودعم من الحلفاء ثالثاً، واثقة من أنها هي التي تقرّر وليست في وضع مَن يُقرّر عنها أو يقرّر لها أو يفرض عليها. ومن هذا المنظور تأتي أهمية ما يجري في الميدان من عمليات عسكرية فرضت على الجميع التوقف عندها، من حيث التخطيط وكيفية التنفيذ والنتائج المحققة والتداعيات المرتقبة. ومن هنا يكون مبرّراً القول بحجم ومدى تأثير العمل الميداني على العملية السياسي، وهنا نتوقف عند جبهات ثلاث تمّ العمل عليها مؤخراً وحققت نتائج بالغة الأهمية وأظهرت إبداعاً عسكرياً من قبل القوى التي انقضّت على المجموعات الإرهابية واقتادتها إلى الانهيار الإدراكي الذي تفاقم لديها حتى جعلها تفرّ من الميدان بشكل جماعي وتنشر بفرارها حالاً من الإحباط والانهيار المعنوي أيضاً لدى المجموعات الإرهابية في مراكز تبعد عشرات لا بل مئات الكيلومترات عن الجبهة.

ففي ربيعة تمكّنت القوى المهاجمة، وفي ظلّ ظروف جغرافية ومناخية بالغة الصعوبة والتعقيد أن تظهر إبداعاً عسكرياً تمثل بكيفية التخطيط وجزئيات التنفيذ والمفاجأة الاستراتيجية والتكتية وتنفّذ عملية ميدانية تكاد تكون بدون خسائر وأن تسيطر على أحد أهمّ متّكأين استراتيجيّين لتركيا في شمال ريف اللاذقية، بعد أن كانت سيطرت على المتكّأ الأول في سلمى قبل 10 أيام. وفي هذا الإنجاز حققت سورية مكاسب متعدّدة ميدانية وعسكرية واستراتيجية وسياسية، ففتحت الطريق إلى تطهير أول محافظة سورية كلياً من الإرهاب، وقطعت الطريق على التدخل التركي في الشمال الغربي السوري، وأجهضت الحلم التركي بالمنطقة الآمنة المتصلة بالبحر، ومكّنت من تطويق مثلث إدلب ـــ جسر الشغور ـــ سهل الغاب من الغرب، ما عزز التحضيرات لمعركة تطهير المثلث كله والأهمّ من كلّ ذلك وضعت تركيا في دائرة العجز عن التدخل لدعم الإرهابيين وهو ما كانت أدمنت على القيام به منذ بدء العدوان.

أما في الريف الشرقي لحلب فقد تمكّنت القوى الميدانية السورية ومع الدعم الجوي الذي تتلقاه من التقدّم شمالاً وتطرق باب مدينة الباب، التي نرى أنه لن يتأخّر فتحه، ولتقول إنّ العملية التي بدأت بالخرق الاستراتيجي باتجاه مطار كويرس لم تكن إلا مقدّمة لإنشاء قاعدة انطلاق لتحرير ريف حلب الشرقي والاندفاع شمالاً ثم الالتفاف غرباً لإحكام الطوق على حلب تمهيداً لخوض أهمّ معركة في الشمال السوري ــــ معركة حلب، والتي يبدو أنّ كلّ مهتمّ بالشأن من المشاركين بالعدوان بات يخشاها ويرتجف خوفاً من نتائجها التي ستفرض واقعاً لا يمكن لأحد أن يتخطّاه أقله قطع اليد التركية ومنعها من العبث المريح في الداخل السوري، كما أنها ستكون معركة تتصل بشكل أو بآخر بما يروّج ويتداول من أفكار حول تقسيم أو حكم ذاتي وما إليه من مشاريع تمسّ وحدة سورية التي يدافع عنها إلى جانب سورية حلفاؤها الصادقون.

وتبقى الصفعة الهامة الأخرى التي وجهتها سورية إلى الإرهاب في الشيخ مسكين، والتي تزامنت مع الإنجازَيْن المتقدِّمَيْن، لتؤكد مرة أخرى نجاعة «استراتيجية الحرب الشاملة والجبهات المتعدّدة» التي مكّنت سورية من تحقيق الإنجازات المتعدّدة تزامناً وحرمت الإرهابيّين من قدرات الهجوم ونقل القوات للإسناد المتبادل. كما أنّ تطهير الشيخ مسكين والذي تمّ وفقاً لخطة عسكرية محكمة حققت المفاجأة العملانية وقادت المسلحين إلى التشتّت والتناحر والفرار، أدّت أيضاً إلى عزل منطقة نوى في الشرق عن منطقة غرب طريق درعا وأحدثت سداً وقاعدة انطلاق باتجاه تحرير الجنوب لاستكمال مفاعيل الاستدارة الأردنية ضدّ الإرهابيين، وهذا ما سيؤدّي إلى رفع فرص تطهير كامل الجنوب من المسلحين قريباً.

إننا توقفنا عند هذه الإنجازات لنقول بأنّ العمليات العسكرية الحاضرة ستقود بشكل واضح إلى عزل اليد الخارجية عن الميدان السوري، ما يجعل محاولات التأثير الخارجي على العملية السياسية محدوداً، ومن هنا نفهم كيف أنّ كيري يستعجل المباحثات في جنيف للوصول إلى حكومة يشرك فيها المعارضة اليوم قبل ألا تجد المعارضة ومَن يُسيّرها ما تضغط به غداً للاشتراك في السلطة، كما تشتهي، وفي المقابل نجد أنّ سورية وحلفاءها يعلمون في موقع القوة في الميدان وفي موقع القوة الشرعية والقانونية في السياسة، وبالتالي لا استعداد لديهم للقبول بأي حلّ غير سيادي أو الخضوع لأيّ ضغط لإعطاء شيء في سورية لمن لا يستحق كائناً مَن كان هذا الشخص. وبهذا تنظر سورية وحلفاؤها بعين الرضا والطمأنينة إلى المسارين الميداني والسياسي من غير أيّ ارتباك يتصل بتنافس مزعوم بينهما.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى