سباق المفاوضات والحسم العسكري: هل يتكرّر السيناريو الفيتنامي في سورية؟

حسن حردان

أثار الموقف الأميركي المعارض للقصف التركي للأراضي السورية وامتناع حلف الناتو عن تأييد أيّ عمل عسكري تركي في سورية، وكذلك التحذير الروسي من مغبّة إقدام السعودية وتركيا على تنفيذ هجوم عسكري بري في سورية باعتباره عدوانياً وسيقود إلى حرب واسعة وطويلة، أثار ذلك التساؤل لدى العديد من المتابعين والمراقبين، عما إذا كان هناك تفاهم روسي أميركي، عبّر عنه قرار مجلس الأمن الدولي 2254، وقبله مقرّرات لقاءات فيينا وتفاهم ميونيخ، أم أنّ هذا الموقف الأميركي بمثابة تسليم بتوازن القوى الاستراتيجي الجديد الذي فرضه الحضور العسكري الروسي النوعي في الميدان السوري في الحرب ضدّ قوى الإرهاب التكفيري؟

من المعروف أنّ المشروع الاميركي من وراء شنّ الحرب الإرهابية على سورية يستهدف إسقاط الدولة الوطنية السورية وإعادة بناء نظام موال لواشنطن، لكن على أسس طائفية ومذهبية وعرقية على غرار ما حصل في العراق بعد الغزو الأميركي له، مما يسهّل على السياسة الأميركية بسط نفوذها عبر التغلغل داخل النسيج الاجتماعي للمجتمع السوري وتقديم نفسها كمدافع وحام لحقوق الفئات المختلفة.

وطبعاً تسعى واشنطن من وراء ذلك الى إحكام قبضتها وهيمنتها على المنطقة والتحكّم منفردة بمقدّراتها ورسم سياسات الدول فيها بما يتيح المجال أمامها لمحاصرة كلّ من روسيا والصين ومنعهما من تحقيق تطلعاتهما في إقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب، وبالتالي تكريس الهيمنة الأميركية الأحادية على القرار الدولي.

غير أنّ هذا المشروع الأميركي أخفق في تحقيق أهدافه المذكورة بفضل ثبات وصمود سورية قيادة وجيشاً وشعباً في مواجهة الحرب الإرهابية عليها، على الرغم من تجنيد أميركا كلّ الدول التي تدور في فلكها في هذه الحرب، وإرسال مئات آلاف الإرهابيّين، المدرّبين على أيدي أجهزة الاستخبارات الأميركية والغربية، إلى سورية وتزويدهم بأحدث الأسلحة المتطوّرة، وأدّى هذا الثبات والصمود لسورية إلى ارتباك السياسة الأميركية من ناحية، وزيادة الإيمان والقناعة لدى حلفاء سورية، لا سيما روسيا، بصحة موقفهم الداعم للدولة الوطنية السورية والرئيس بشار الأسد، وأهمية زيادة هذا الدعم لإحباط المخطط الأميركي وإحداث نقله نوعية فيه يوازي أو يفوّق الدعم الذي يقدّمه التحالف الدولي بقيادة أميركا لقوى الإرهاب التكفيري.

وقد تجسّد الدعم الروسي النوعي بإرسال أسراب طائرات السوخوي المتطوّرة للقتال إلى جانب الجيش العربي السوري الذي كان قد درّب وجهّز خلال الفترة الماضية قوة عسكرية مكوّنة من 120 ألف جندي لشنّ الهجوم على المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية بدعم من الطيران الروسي، كما تجسّد الدعم الروسي بإرسال منظومة صواريخ «أس 400» و»أس 300» للدفاع الجوي لحماية الأجواء السورية استعداداً لمواجهة أيّ مناورة أميركية غربية، وأرفقت روسيا كلّ ذلك باستنفار أساطيلها وغواصاتها وطائراتها الإستراتيجية التي استخدمت لأول مرة في قصف الجماعات المسلحة في سورية في سياق رسالة واضحة باستعدادها وجاهزيتها للحرب العالمية إذا ما حاولت أميركا وحلفاؤها الغربيون تجاوز الخطوط الحمر التي فرضها الحضور العسكري الروسي المباشر في سورية.

هذا التطوّر الجديد في مسار الأزمة في سورية، فرض توازناً عسكرياً استراتيجياً ووضع أميركا والغرب أمام خيار من اثنين:

إما الذهاب إلى التسوية لكن بشروط روسيا وسورية وإيران، والمستندة إلى توازن القوى الجديد.

أو الذهاب إلى الحرب العالمية المستعدّة لها روسيا جيداً ووفرت لها كلّ مستلزماتها.

الواضح أنّ الإدارة الأميركية قرّرت السير في التسوية والتسليم بتوازن القوى الجديد، وبالتالي القبول بما كانت ترفضه سابقاً، وهو أنّ الشعب العربي السوري هو الذي يقرّر من يريد رئيساً لبلاده، عبر الانتخابات، وبالتالي لا يحقّ لأحد في العالم فرض أيّ شرط عليه مثل تنحّي الرئيس الأسد عن السلطة، باعتبار بذلك شأناً سيادياً سورياً.

وكذلك الموافقة على تصنيف الجماعات الإرهابية وعدم شمولها بأيّ وقف للنار، وتشكيل وفد للمعارضة يضمّ كلّ اتجاهاتها الداخلية والخارجية ولا يكون مختصراً بـ»معارضة الرياض».

قد يقول قائل بأنّ أميركا تناور، ولا يمكن أن تسهّل تسوية بهذا المضمون لأنّ نتيجتها هزيمة سياسية تتوّج هزيمة الجماعات الإرهابية في الميدان، لكن من قال إنّ أميركا، عندما وافقت على ذلك في فيينا ومجلس الأمن وتفاهم ميونيخ الأخير، لديها القدرة على المناورة مع الروسي للتهرّب من التزاماتها.

فأميركا لا تريد الذهاب إلى حرب مع روسيا لأنّ هذه الحرب محكومة بالفشل مسبقاً، فهي لا تحتكر اليوم وحدها السلاح النووي كما كانت في الحرب العالمية، ثم هي تعاني من أزمة اقتصادية ومالية كبيرة لا تتيح لها تحمّل أكلاف حرب عالمية باهظة، وهناك تداخل في الاقتصاد العالمي، يجعل شركاتها متضرّرة من هذه الحرب.

وفي المقابل فإنّ الزمن يعمل في غير مصلحة أميركا حيث تؤشر التطورات في الميدان إلى التقدّم السريع للجيش السوري وحلفائه، وأنّ الاستمرار في تأخير إقلاع مفاوضات جنيف لن يقود سوى إلى واقع ميداني أسوأ بالنسبة لأميركا وحلفائها، وبالتالي إلى إضعاف الموقف الأميركي تجاه الموقف الروسي السوري الإيراني، ثم أنه عندما يحسم الجيش السوري وحلفاؤه المعركة مع القوى الإرهابية ويتمكّنون من تحرير ما تبقّى من مناطق وإقفال الحدود التركية والأردنية فإنّ النتيجة ستكون هزيمة تامة لأميركا وحلفائها. أما إقدام قوات تركية سعودية على تنفيذ عملية برية في منطقة الرقة أو أيّ منطقة سورية أخرى من غير مشاركة وموافقة أميركا، فإنّ دونها عقبات عديدة أبرزها:

ـ غياب غطاء من مجلس الأمن الدولي لأنّ الفيتو الروسي الصيني حاضر ضدّ أيّ مشروع قرار من هذا النوع.

ـ عدم وجود موافقة من الحكومة السورية الشرعية.

ـ وجود مظلة روسية للدفاع الجوي في سورية جاهزة لإسقاط أيّ طائرة حربية لا تحظى بأذن مسبق للتحليق فوق الأراضي السورية.

ـ القوات التركية السعودية إذا ما دخلت إلى الأراضي السورية من دون غطاء جوي فإنها ستواجه مقاومة عنيفة من قوات الحماية الكردية، ومن الجيش العربي السوري، وسوف تكون عرضة للتدمير من قبل طائرات السوخوي الروسية الحاضرة للثأر من حكومة أردوغان على حماقتها في إسقاط السوخوي فوق ريف اللاذقية.

من هنا فإنّ المرجّح كما تشير المواقف الأخيرة الصادرة عن المسؤولين الأتراك والسعوديين عدم الذهاب إلى ارتكاب حماقة من هذا النوع، وهم ربطوا المشاركة بأيّ عملية برية بأن تكون تحت قيادة أميركية، وواشنطن تقول إنها لا تريد الدخول في هجوم بري لا في الرقة ولا في أيّ منطقة أخرى، لأنّ ذلك يشكل مساً بالخطوط الحمر الروسية ويقود إلى اصطدام مع روسيا، وبالتالي إلى اندلاع حرب واسعة في المنطقة قد تتطوّر إلى حرب عالمية.

انطلاقاً مما تقدّم يمكن القول إنّ المعادلة في سورية باتت ترتكز إلى قاعدتين:

الأولى: عملية الحسم العسكري ضدّ الجماعات الإرهابية مستمرة دون توقف، وأيّ وقف للنار لا يشملها أصلاً حسب قرار مجلس الأمن ومقرّرات فيينا وتفاهم ميونيخ الأخير.

الثانية: صراع في المفاوضات حول شروط تسوية الأزمة، والتي يحكمها توازن القوى في الميدان والمختلّ لصالح الجيش السوري وحلفائه، وهو ما يجعل القوى «المعارضة» التابعة لأميركا والسعودية وتركيا أمام خيارين، إما التسليم بقواعد التفاوض التي حدّدها قرار مجلس الأمن، ومن دون شروط مسبقة، وعلى أساس أنّ الشعب العربي السوري هو الذي يقرّر عبر الانتخابات من يحكم في سورية، وليس أيّ جهة خارجية، أو مواصلة رفض القبول بذلك والإصرار على تعطيل المفاوضات بضغط سعودي تركي لا ترضى عنه واشنطن التي حذّر وزير خارجيتها «المعارضة» من عدم اغتنام الفرصة للتفاوض، لأنّ الزمن ليس في مصلحتها.

وهذا يعني أننا أصبحنا أمام ما يشبه السباق بين الحسم العسكري والمفاوضات، ما يطرح السؤال:

هل يتكرّر السيناريو الفيتنامي الذي انتهى إلى هزيمة جيش الاحتلال الأميركي وانسحاب آخر جندي من سايغون تحت نار المقاومة الفيتنامية، في ظلّ المفاوضات التي لم تكن قد توصلت إلى نتيجة؟

أم ندخل في مسار التفاوض وتطبيق روزنامة الحلّ وفق قرار مجلس الأمن بالتوازي مع الحسم العسكري ضدّ كلّ الجماعات الإرهابية؟

هذا ما تحسمه الأسابيع أو الشهور المقبلة.

كاتب وصحافي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى