هكذا يُبهِر القوميون بحفظ الدم والعقيدة والمؤسسات

ناصر قنديل

– عندما نجح الحزب السوري القومي الاجتماعي بعقد مؤتمره القومي العام في ظروف تلجأ فيها الأحزاب المشابهة إلى تفادي المؤتمرات. وهو الحزب المنخرط حتى النخاع الشوكي في الحرب في سورية مدركاً مكانته ومكانه، كقيمة مضافة في تأكيد الجوهر القومي والوطني لمقاومة المشروع الدولي الإقليمي الذي يستهدف سورية، نافياً بدماء شهدائه وتلوّن أطيافهم وحضوره المتعدّد بين المناطق والأطياف أيّ طابع حزبي او سلطوي أو فئوي أو طائفي أو مذهبي عن مقاومة هذه الحرب التي صارت التنظيمات الإرهابية القائمة على عصبية عنوانها التكفير الديني، الجيش الرسمي المعتمد فيها من كلّ الأطراف التي شنّتها ومن المتورّطين فيها من واشنطن وباريس إلى تل أبيب مروراً بعواصم المنطقة وخصوصاً أنقرة والرياض. كان الحزب القومي يؤكد انّ علاقة الدم بالعقيدة التي يقوم عليها مشروع النهضة تحتمي وتقوى وتتحصّن بالمؤسسات الحزبية، وليس على حسابها، وبدلاً من إعلان حال طوارئ حزبية، في الحزب الذي لا تقلّ سورية كساحة عمل ونشاط وتنظيم في بنيته عن لبنان، ولا يختلف مكانها عنه في العقيدة، وفي هذه الساحة الرئيسية حال حرب، يكفي أقلّ منها لتقدم أحزاب أخرى على مثل حال الطوارئ وتعليق العمل بالأنظمة لحين مؤاتاة ظروف سلم وأمن واستقرار تتيح العودة للحياة الحزبية.

– يمكن بمسؤولية وإنصاف القول إن رئيس الحزب أصرّ ورمى بثقله لتأمين انعقاد المؤتمر في ظروف تكاد تكون مثالية، سواء لجهة الظروف اللوجستية لعقد المؤتمر أو لجهة حجم المشاركة من كلّ ساحات العمل الحزبي، أو لجهة انبثاق الأطر التي يتشكل منها المؤتمر، أو لجهة توسيع مروحة استرداد رموز حزبية نأت عن العمل الحزبي طويلاً، لتشترك في المؤتمر، ويكون مؤسسة القوميين الجامعة. وما استدعاه ذلك من بذل جهود ومصالحات وإعداد ونقاشات، وسعي لتحويل المؤتمر إلى إطار للاستثمار على كلّ إمكانية لتحشيد القوميين بمن في ذلك من اتخذوا لأنفسهم أطراً تعمل خارج الإطار الحزبي بمسمّيات الحزب، ويمكن للقوميين ان يشهدوا أنّ تشكيلة الفائزين بعضوية المؤسسات الحزبية التي انبثقت عن المؤتمر، كانت بجهد من رئيس الحزب ترجمة لهذه الروح الجامعة، وليست فعل التنافس الديمقراطي، حتى أنّ بعض القوميين رأوا في منح أصواتهم لعدد من الأعضاء الذين فازوا بعضوية مراكز قيادية، نوعاً من المجانية غير المفهومة، ومنحاً لمواقع لم ينلها أصحابها بجدارتهم، ولا بشرعية الاحتكام إلى تصويت ديمقراطي، بل لأنّ رئيس الحزب أراد شارحاً فكرته لرفقائه، بأنّ المهام التي تنتظر الحزب، والمسؤوليات التي يتصدّى لقيادتها، توجب عليه إقفال كلّ ما يمكن من الثقوب في جدران المؤسسة الحزبية، لتتفرّغ طاقات الحزب وتندفع آلته بحيوية بوجهة واحدة هي المهام الجسام التي تنتظر القوميين، وفي المقابل فإنّ الأثمان التي دفعها القوميون وحزبهم لقاء التصدّي لمهام نوعية فرضوا فيها حضورهم الفاعل مجسّدين ثنائية الدم والعقيدة وتفاعلهما، تلزم القوميين بمنع تضييع هذه التضحيات والدماء، بفتح مزيد من الثغرات في جدار العمل الحزبي، لأنّ الحزب بسبب هذا الدور ونظراً لحجم المساهمة التي قدّمها، والتأثير البالغ الذي تركه، كما فعل من قبل في ساحات المقاومة، عرضة للاستهداف والسعي لجعله ملعباً للمنازعات، ولا يحق للقوميين الحكم على القيادات التي تقف موقفاً نقدياً، أو تتميّز ببعض اجتهادات أو أمزجة وطباع شخصية، وتصويرها كأدوات خارجية تستخدم لاستهداف الحزب، جزافاً. لأنّ مثل هذا الاتهام الخطير لا يقدم عليه القوميون بلا إثبات وأدلة دامغة، وبعد منح الفرص الكافية، والذهاب في التفاعل المنهجي، وبعدها فليُخرج الخارجون عن الحزب أنفسهم من معادلته، قبل أن يخرجهم الحزب فيبتعدون عن القوميين قبل أن يستبعدوهم.

– خرج المؤتمر بنجاح الوصفة التي قدمها رئيس الحزب أسعد حردان للمّ الشمل وتوسيع الصدور، لتلقف الجميع في قلب المؤسسات، وبقي بعض من العمل الكثير الذي يحتاج استكمالاً وجهداً، والذي يفترض بالمؤسسات الخارجة من رحم المؤتمر والرسالة الجامعة التي حملتها أن تتولاه. وكانت المهمة الأولى للمجلس الأعلى الجديد المنتخب لتوّه هي انتخاب رئيس جديد للحزب، وكان واضحاً أنّ حدود قدرة رئيس الحزب على توسيع نطاق المشاركة في مؤسسات الحزب القيادية أمام قيادات مستنكفة عن العمل الحزبي محكومة بنسبة تشبه الإجماع المجسّد في المؤتمر والذي يمنحه التفويض لمواصلة القيادة الحزبية في هذه المرحلة الدقيقة. فلم يسمح القوميون بمرور مجلس أعلى لا يشبه شبه الإجماع على النهج الذي مثله الرئيس في تجربتي المقاومة للاحتلال في لبنان والإرهاب في سورية، فتساهلوا ألا يكون المجلس الأعلى ممثلاً لهذا النهج بالنسبة المئوية ذاتها التي حملها المؤتمر، لكنهم أبقوها ضمن ضوابط تحفظ قدرة المجلس على تسيير العمل الحزبي بسلاسة وتحمي التضحيات، وتضمن توليد قيادة تلتزم بمواصلة العمل ضمن الروح والخطاب ذاتهما، وكان رئيس الحزب المدرك أهمية المهمة الحزبية الأولى وهي حفظ التضحيات ومواصلة القتال باتجاه القضية المركزية، يدرك أنّ ترجمتها لا تستقيم مع استبعاد أيّ رأي مخالف أو مزاج وطباع مشاكسة أو مستنكفة، على الاشتباه، وتحويلها خصومة، تمنح أعداء الحزب مرادهم للنيل منه واستنزافه إعلامياً وسياسياً وتنظيمياً، متمسّكاً بعدم التعامل بغير روح الجمع والإجماع.

– كان أمام المجلس الأعلى للحزب أحد خيارين، وهنا أنقل شهادتي الشخصية لمناقشات كنتُ حاضراً على بعضها وشريكاً في بعضها الآخر، واحد مثّله رئيس الحزب أسعد حردان، والآخر مثله رفيق دربه الوزير السابق علي قانصو الذي مثّل الخيار الثاني. بين دعوة قانصو ورفقائه لتعديل الدستور وإعادة انتخاب حردان لأنه على قياس المهام المنتظرة من مؤتمر منحه بنسبة التصويت ما يشبه الإجماع، قبل أن يتبلور خيار ثالث هو الاعتراض على تعديل الدستور، ومقابله خيار اشتراط رئيس الحزب على قبول تعديل الدستور وانتخابه رئيساً لمرة ثالثة أن يتمّ ذلك بإجماع المجلس الأعلى، أيّ بشراكة الأعضاء الذين انتخبوا من ألوان تجاهر بأنها لا تتفق مع ثنائي حردان قانصو. وكان معلوماً أنّ الأغلبية اللازمة للتعديل الدستوري متوافرة، وبالتأكيد الأغلبية اللازمة لانتخاب رئيس جديد من اللون الرئاسي ذاته، كان على الأرجح سيكون قانصو. فتقابلت نزاهتان حزبيتان قوميتان، زاهدتان بالسلطوية. نزاهة الرئيس المؤمن بالأطروحة السياسية والاستراتيجية التي يتبناها قانصو والتي تقوم على أنّ الحزب في قلب حرب قادها حردان ويملك مفاتيحها ويقدر وحده على منحها الزخم الأعلى المطلوب، ولكن المقتنع بأنّ هذه الرئاسة التي يدعوه إليها قانصو والرفقاء الذين يشكلون أغلبية المجلس الأعلى، بدون الإجماع ستسبّب شرخاً يطيح بما تحقق في المؤتمر، وتعيد خلط الأوراق الحزبية بتضييع الفوارق بين الذين يملكون اجتهاداً أو طبعاً مختلفين، وبين مَن يشتغل الخارج بهم، على تنوّع مصادره، للنيل من الحزب، وكانت في المقابل نزاهة يمثلها قانصو تزهد برئاسة ستتولاها على الأرجح بحال صرف النظر عن تعديل دستور الحزب وانتخاب حردان، وتقول إنّ مهمة المجلس الأعلى تقدير ظروف المعركة الفاصلة التي تشارف على محطات مصيرية، ويتحمّل الحزب مسؤولية أدوار رئيسية فيها، ولذلك فعلى المجلس الأعلى أن يتحمّل مسؤولية خياراته بناء على هذا الحساب أمام مؤسسات الحزب، ولاحقاً أمام المؤتمر.

– مع السير بتعديل الدستور وانتخاب حردان خرج كثيرون يتحدثون عن عدوى السلطوية التي أكلت الحزب القومي، ويشيرون بالإصبع إلى حردان كمرجع للإيحاء بالتعديل، ويرفضون كلّ كلام عن ترفعه. ورغم أنني كنت في صورة نسبية لما جرى تتيح التحدث فضلت الصمت، لأنّ الكلام سيكون ضعيفاً في ظلّ الوقائع التي تبيح الصوت العالي لأصحاب الاتهام، ولأنّ الأهمّ هو أنّ الحزب صان مؤسساته ليواصل الطريق، وجاء انتخاب حردان رئيساً للحزب، ووقفت أقلية في المجلس الأعلى ضدّ التعديل والانتخاب، هي الأقلية ذاتها التي وضع حردان ثقله لضمان فوزها في انتخابات المؤتمر، وقرّرت هذه الأقلية وفقاً لدستور الحزب اللجوء إلى المحكمة الدستورية للطعن بالتعديل، وهو ما انتهى إلى الأخذ بالطعن. وهنا بدأت مسيرة جديدة، في كيفية تعامل الرئيس المنتخب وفق التعديل الدستوري مع قرار المحكمة، وكيفية تعامل المجلس الأعلى صاحب هذا التعديل، بالأغلبية اللازمة لإنجازه، وبمعزل عن متاهات وجود مخارج التفافية للتمسك بالتعديل ومفاعيله، وصولاً إلى إمكانية إعلان حال الطوارئ، أو التحضير لمؤتمر استثنائي أو سواها من الخيارات، فقرّر الرئيس والمجلس الأعلى الرضوخ لقرار المحكمة، الذي قد يكون دستورياً صرفاً، وقد يكون سياسياً، وقد يكون استدراجاً من قوى تتربّص بالحزب تورّطت فيه المحكمة بحساب تظهير الأنا والاستقلال، لكن التفسير الذي حكم موقف الرئيس والمجلس الأعلى، كان البناء على اعتبار المحكمة قامت بمهمتها وفقاً لما رأته دستورياً، بغضّ النظر عن صحة الرأي من عدمه. كما أنّ المجلس الأعلى قام قبلها بمهمته وفقاً لما رآه تشخيصاً لحال الصراع وضرورات المصلحة الحزبية العليا، أما التصرف بمعزل عن التحليل فقد بُني على معادلة المؤتمر نفسها: كيف نصون التضحيات ونحمي مسيرة الحزب ونحول دون استدراجها إلى متاهات ومسارب تحرفها عن بوصلة الصراع الرئيسية؟ فلا يجوز أن يكون الإقدام على خيار تعديل الدستور بداعي الحرص على الموقع من حالة الصراع، وأن يسقط في المقابل هذا الحرص في التعامل مع قرار المحكمة، فكان الانحناء أمام القرار المؤسسي والإعلان عن التحضير لانتخاب رئيس جديد.

– قدّم الحزب القومي على مستوى قادته، هذه المرة، قيمة مضافة في السلوك التنظيمي المؤسسي، وعبرة في عقل مؤسسي نادر، لكنه في السياسة قدّم قيمة مضافة لإعلاء شأن القضية، بتحويلها أحادية حاضرة في الهمّ الحزبي، وليس باستخدامها لقسمة الصفوف، وهذا وفقاً لمنطق المؤتمر ذاته الذي قاده رئيس الحزب يمنح المخالفين فرصة الاندماج بحيوية منتظرة منهم منذ ما بعد المؤتمر، لتفعيل وتنشيط العمل الحزبي وضخّ الدماء التي يمثلونها في شرايينه، لكنه بمثل ما يمنحهم فرصة يضعهم أمام امتحان لا يمكن القفز عنه. وفي الحالين ستشكل كيفية التعامل مع ما سينتجه المجلس الأعلى في انتخاب رئيس جديد تفسيراً منطقياً لكلّ ما جرى، وتضع النقاط على الحروف، بين كون المسألة مسألة اجتهاد ومزاج وطباع مختلفة، أم أنّ في المسألة أشياء أخرى، يسمّيها البعض الحاجة لتغيير نهج الحزب، ومَن هم الذين تقف قضيتهم عند حدود الاجتهاد والمزاج المختلفين، ومَن هم الذين سيمضون في ابتكار عناوين وقضايا لجعل الحزب ساحة صراع بدلاً من أن يكون الأداة الفاعلة في الصراع الأصلي؟

– الرابح في حصيلة هذا السلوك وهذه الإدارة، وهذه التفاعلية، سيبقى الحزب القومي وقضيته ومؤسساته ورفعته، والنموذج الذي يواصل رسمه في المناقبية والاحتكام للمؤسسات، وارتضاء روح الجماعة مهما كانت قوانينها قاسية، ومعادلاتها مجافية أحياناً لما قد يراه البعض ضرورة، لأنه من دون روح الجماعة وبانتصار فوضى الفردية، تسقط المؤسسة ويصير الحزب عصبية والعصبية سلطة، والسلطة بمنهجية العصبية لا قضية لها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى