الأم أغنيس لـ«البناء»: عدم حسم موعد لقاء أوباما البطاركة إهانة لهم وأقول لمنظمي مؤتمر واشنطن: مبادرتكم ولدت ميتة

حاورتها إنعام خرّوبي

لم تشأ أن تعيش على الهامش ولا أن تهيم على وجه القضاء والقدر… تمنطقت بهالة السماء وبثوب الرهبنة يتسرب نورهما إلى الداخل لأنّ المظهر لا يعني شيئاً إذا لم يستوطن الداخل ويتوحد به أفقياً وعمودياً، جسداً وروحاً، معنىً ومبنىً.

لا تتأفف رئيسة دير مار يعقوب الأم أغنيس مريم الصليب على رغم المواجع، لا تحقد، لا تيأس، لأنّ في أعماقها إيماناً متجذراً بحتمية ربّانية تقضي بانتصار الخير على الشر، والحقّ على الباطل…

قد توافقها على رأي سياسي وقد تعارضها، تؤيدها أو ترفض طرحها، لكنها تأسرك بصراحتها، بطيبتها، بمشاعرها الفياضة بالحب والخير والصفاء.

هي ذي الأم الفاضلة أغنيس، الأم المجبولة بمعدن الإنسان الراعي المعطاء، الذي شفت طويته ورقت حتى سما به المقام وارتفع المقول…على هذه الركيزة المركّبة كان لقاء «البناء» بالأم التي فُرشت تحت أقدام أمثالها الجنة الموعودة، فكان هذا الحديث:

الأم أغنيس أشهر من أن تعرّف، لكن كيف تعرّف هي عن نفسها؟

ــ أنا راهبة لبنانية كنت «حبيسة» لمدة 23 سنة في دير الكرمة في حريصا، واكتشفت أنطاكيا عبر ترميم لوحة «سيدة إليج»، وشعرت أنّ المسيحيين أو أيّ إنسان في هذا الشرق في حاجة للعودة إلى الجذور، وشعرت بأنّ كنيسة أنطاكيا هي الهوية، وقد تلقيت دعوة ضمن دعوتي أن أخدم الكنيسة المحلية وأنغمس أكثر في الواقع اليومي لأهالي هذه المنطقة «أنطاكيا». وكانت فكرتي في البداية أن أؤسّس ديراً في وادي قنّوبين وبدأت إجراء الاتصالات مع الرهبنة اللبنانية المارونية، لكن كاهناً صديقاً أخذني إلى سورية واكتشفت دير مار يعقوب المقطع وكان خراباً وفي حاجة إلى ترميم، وشعرت بأنني يجب أن أرمّم هذا الدير ونسيت مشروع دير «وادي قنوبين»، وكان الأمر بمثابة الوحي وأخذنا الإذن من المطران المحلي لترميم الدير التاريخي الذي يعود إلى القرن السادس. وبذلك انتقلت من بيئة لبنانية، مع تطلعات لبنانية إلى سورية.

ماذا تقصدين بـ«تطلعات لبنانية»؟

ــ أعني أننا في لبنان ننظر إلى البحر، ولكن في سورية ننظر إلى الشرق، أنا لا أنتقد أحداً ولكن ما أريد توضيحه هنا هو أنّ الآفاق لديّ أصبحت أكثر اتساعاً، لكي أخدم كلّ هذه المنطقة، أيّ على نطاق أوسع. وقد أصبحنا في دير مار يعقوب المقطع خلال فترة وجيزة مركزاً عالمياً، وكان المؤمنون يقصدون الدير من كلّ أنحاء العالم لكي يشربوا الروحانية. وقد أنهينا ترميم الدير في العام 2000 حيث استقرّينا، ولكن بعد أن أصبح مركزاً عالمياً، اضطررنا عام 2005 أن نبني نزلاً لكي نستقبل الزائرين الذين يبلغون سنوياً نحو 25 ألف زائرٍ، منهم حوالى ثلاثة آلاف شخص يمكثون في النزل لبضعة أيام، هذا الوضع قبل بداية الأزمة في سورية. ومنذ ذلك الحين قطعت الرجل المسالمة وفتحت الحدود لكلّ التدخلات غير المسالمة.

ألم يكن هذا قراراً صعباً بالنسبة إليكِ؟

ــ لا تستطيع الراهبة في البداية أن تؤكد أنّ ما اتخذته هو الخيار الصحيح، وهناك مجال للتجربة، وقد اتخذت القرار الأكيد بعد ست سنوات، بمساعدة الرئيسة التي وقفت إلى جانبي وتفهّمتني، وبالطبع هذا الخيار هو خيار استثنائي، وعلى رغم أنني اتخذت القرار في نهاية المطاف إلا أنني بقيت متردّدة حوالى عشر سنوات بعد اتخاذ القرار.

اعتبرتِ في أحد تصريحاتك أنّ تفكيك الدول هو أول خطوة لتفكيك الحضارة، فماذا يجري حالياً في دولنا ولشعبنا؟

ــ الإنسان لم يوجد لكي يعيش وحيداً، والخلية الأولى للإنسانية ألا وهي الرجل والمرأة هي نواة العائلة التي هي بدورها، نواة المجتمع. والعائلات مجتمعةً كانت تشكل في السابق أسباطاً وعشائر، بعد ذلك انتقل المجتمع البشري من فكرة العشيرة إلى فكرة البلد، المملكة، الدولة. وهذا التدبير هو من ضمن ترتيب المجتمع الأهلي. وكما هو معلوم، فإنّ فكرة الدولة ليست قديمة، كدولة ديمقراطية، فالدولة تعبّر عن خيارات وعن مصالح المجتمع، ونحن كدول تنتمي إلى هذه المنطقة لم نكن معصومين عن الاستعمار، وانتقلنا من استعمار إلى استعمار، وإذا تحدثنا عن تجربة الدولة في لبنان، فإنّ فكرة الدولة ليست حديثة أيّ منذ عام 1943، أما بالنسبة إلى دول المنطقة فإنّ فكرة الدولة نشأت ما بعد النهضة العربية وكانت النزعة قومية لأنّ ما يجمعنا في هذه المنطقة ليس العرق أو الدين أو الانتماء المكاني، بل هو انتماء فكري ومشروع عيش واحد ضمن إطار الفكرة القومية، وأنا أعتبر أنّ الفكرة القومية فشلت في البلاد العربية، ولا أدري ما إذا كانت ستنجح في أوروبا، لأنّه، وحتى في أوروبا، هناك عناصر تعمل على تفتيت الفكرة الجامعة. وبالعودة إلى السؤال، أنا أعتبر أنّ الدولة هي الأداة القانونية التي تحفظ هوية الأفراد المنتمين إليها، ومصالحهم وممتلكاتهم ومصيرهم، لذلك إذا تمّ تفكيك هذه الدولة، لن يكون هناك عائق يحول دون تسلّط أيّ فرد على أيّ من مكوّناتها لأنّ تفكيك الدولة يغطي نزع الغطاء أو الشخصية القانونية وبالتالي الهوية، ولنأخذ مثالاً على ذلك القضية الفلسطينية، نجد أنه بمجرّد عدم وجود دولة فلسطينية معترف بها، فإنّ الفلسطيني محروم من أبسط الحقوق الإنسانية التي هي من أبرز مقومات الدولة، ألا وهي حيازة أوراق ثبوتية أو هوية كأيّ مواطن في أيّ دولة، إنما الفلسطيني يحمل هوية لاجئ وهذه كارثة جماعية، لذلك اعتبرت أنّ تفكيك الدولة هو بمثابة الإجازة للقيام بأيّ نوع من أنواع السطو على كلّ المكوّنات البشرية وغير البشرية التي تدخل ضمن نطاق تركيبة هذه الدولة. ونحن نرى ما يجري في سورية من أعمال سلب وحرق ونهب وضرب للبنى التحتية وتدمير الحضارة، بمجرّد أن وضع من يسمّون أنفسهم «المجتمع الدولي» علامة استفهام على قانونية أو شرعية الدولة السورية!

المشرق كلمة حياة

شخصيتك تجمع أبعاداً مشرقية، فوالدك فلسطيني من الناصرة ووالدتك لبنانية من مغدوشة، والبيئة التي تعملين فيها هي في الغالب سورية، فكيف أثرت هذه الأبعاد في مفاهيمك ومسيرتك؟

بالتأكيد تأثرت كثيراً بوالديّ اللذين كانت لديهما تطلعات قومية وعروبية، وقد أعطى كلّ منهما فكره لي بحرية، تعلّمت منهما حبّي للبنان وللمنطقة، وتعلّمت أننا جميعاً ننتمي إلى رحم واحد هو هذه المنطقة، والأهمّ من ذلك كله أن يكون انتماؤنا إلى لبنان وإلى أنطاكيا وإلى المشرق انتماءً إلى الإنسانية وأن نحافظ على القيم الإنسانية.

ماذا يعني لك الانتماء إلى مدينة الناصرة مهد السيد المسيح؟

ــ يعني لي كثيراً انتمائي إلى المشرق وإلى أنطاكيا وإلى فلسطين وتحديداً مدينة الناصرة، فالرموز في العالم المحسوس ترفعنا إلى العالم غير المحسوس، فعندما ننظر اليوم إلى منطقتنا نجد أنّ هناك قوى ظلامية تريد أن تشوّه هذه المنطقة التي تعتبر قلب العالم ونقطة ارتكازه، وهذا ما يثبته التركيز الإعلامي على ما يجري في المنطقة على رغم أنها ليست منطقة غنية بالثروات وعلى رغم ذلك هي الأهمّ، وقد اختار الرب هذه المنطقة وهذه الأرض المقدسة لتكون مهداً للرب يسوع المخلّص الذي لم يأتِ ليحصر هذا الخلاص بفئة معينة، ولكن لكي يقول لهذه الفئة أنها الخادمة للكلّ. نحن في هذه المنطقة لدينا رسالة، والباباوات أكدوا أنّ لبنان والمشرق في هذا العالم الذي يركز على الجانب الاقتصادي، قد لا يمثلان نسبة مهمة بالأرقام، ولكنّ هذه المنطقة هي المسبّب الحقيقي للجنس البشري ويرجع إليها أي إنسان لمعرفة جذوره وإشراقة تاريخه، فالقيم الأبراهامية، هي في اعتقادي القيم المؤسسة للجنس البشري، والديانات التي انطلقت من هذه المنطقة والتي تعبد الإله الواحد، أخرجت البشرية من الدياجير إلى بدر الإشراق، وهذه القيم تستحق أن نحافظ عليها من الاندثار، لا أن نضيع في اصطفافات جانبية تجعلنا نبتعد من هذه الرسالة ونخونها فتكون تلك الخيانة بمثابة المقبرة لنا، لأنّ مجد الله لا يمكن أن نحصره أو ننساه، وأنا أتمنى على المشرقيين الرجوع إلى الذات ونسيان المصالح الجانبية والسطحية وأن يعيدوا تقييم الكنوز الحضارية والروحية ونلتزم بها، وأنا أرى أنّ علينا، في هذا المشرق الذي اختاره الرب، له المجد، ليعطي العالم، انطلاقاً منه، كلمة الحياة والحكمة ما قبل التاريخ، أن نعود إلى هذا الوحي وإلى هذا الإشراق وأن نضع مجهودنا في خدمة هذه القضية السامية.

أحادية في الرؤية

يقول المطران جورج خضر «عندما تفلس دكاكين الألوهة تقرع طبول الحرب»، هل ما يجري الآن سببه بُعد الإنسان عن الله؟

ــ البعد عن الله مرض كوني، لكنه في أيامنا هذه يظهر بطريقة أعظم وأخطر بسبب دخولنا عصر العولمة التي تظهر كلّ عورات المجتمع، بل تشجعها وتعطيها الغطاء القانوني. هناك أحادية في الرؤية ولم تعد القيم تستوحى من الكتب المقدسة ومن الحكمة الأزلية، بل تمّ ابتداع قيم جديدة لا علاقة لها بالجذور التي تفوق الزمان والمكان، ومَن ابتدعوا هذه القيم يلبسون أثواباً لا علاقة لها بالتاريخ، وبسبب هذه القيم لم يعد هناك مكان ولا صدقية ولا رهبة للقانون الحقيقي الإنساني والدولي، وللأسف فإننا في المشرق ضعفاء لا نملك من القوة ما يمكننا من مواجهة هذا التدهور الأخلاقي، بل هناك انسياق وراء المصالح، بحيث أصبحت مصالح الدول هي التي تسنّ القوانين وتجعل الإنسانية مجبرة على نسيان كلّ ما سبق وأعطانا إياه الأقدمون من قيم إنسانية حضارية وأخلاقية وتتجه نحو مستقبل، أنا أعتبر أنه لا يليق بالإنسان.

نفتقد التربية السليمة والصحيحة

إلى أيّ مدى ساهمت وسائل الإعلام، عن قصد أو غير قصد، في تكريس هذا الواقع حتى أصبحت مشاهد القتل والذبح على الشاشات أمراً عادياً بالنسبة إلى المشاهد والمتلقي لهذه الرسالة الإعلامية؟

ــ على رغم أنّ وسائل الإعلام تعتبر أداة قوية جداً في إعطاء المعلومات وتوجيهها، لكنّ ما نفتقده أكثر هو التربية السليمة والصحيحة، وقد كان الأقدمون يعهدون تربية الطفل إلى مربٍّ يبدأ بتنشئته منذ نعومة أظفاره، ولم يكن هناك ملِك في التاريخ لم تتمّ تنشئته بهذه الطريقة. أما اليوم فقد انتقلنا من عصر التربية والعلم إلى عصر المعلوماتية، فالعلم هو الإنسانية المركّزة التي تغتني وتكبر يوماً بعد يوم أما المعلوماتية فهي آنية. وللأسف لم يعد هناك عطاء ولم يعد هذا الجيل مستعداً أن يجنّد نفسه لأيّ شيء أو قضية.

باكراً حذّرتِ من الكانتونات والإمارات السلفية، وهذه الغيتوات تنتقل بدعم خارجي قوي من منطقة إلى أخرى، فإلى أين تتجه الأمور؟

ــ أنا ضدّ الدين حين يستخدم كوسيلة لخطف فكرة الله لمصالح دنيوية، فإذا مات الحسّ الإلهي الحقيقي في المؤسسة الدينية تصبح وسيلة خادعة، وما نشهده اليوم هو توظيف الدين في خدمة السياسة، وهذا التوظيف للناس، اصطناعياً، لمصالح سياسية، يخلق أساطير تجعل الأشخاص المتديّنين يضيعون، ظناً منهم بأنهم يخدمون قضية دينية لها أهميتها وقيمتها، وهم لا يدرون أنهم ليسوا سوى قطيع مضلَل. وحين نبحث في أسباب هذه الظاهرة فإننا لا ننظر إلى المجتمع الديني ولا إلى رجال الدين أو إلى الإكليروس الذي يحكمه، بل نتطلع إلى المشغّل الأكبر الذي يموّل ويحاول أن يجعل من هذا المكوّن السلفي أداة لخدمة مصالحه. إذاً نحن أمام دينامية متشعّبة ومعقدة، إذ هناك أشخاص لا علاقة لهم بالدين وقد يكونون ملحدين يتدخلون لصياغة إيديولوجية معينة بعيدة في قيمها عن المجتمع الإنساني وعن الدين، لتحقيق أغراض سلطوية. وفي هذا السياق، نجد أنّ هؤلاء السلفيين الذين ينتمون إلى تنظيمات مثل «داعش» وقبله «القاعدة» وغيرهما، لا علاقة لهم بدينهم ولا بمجتمعهم لا بأيّ إفراز مجتمعي، إنما هم منتج مصطنع تمّ حقنه في جسد هذا المجتمع بطريقة ممنهجة وذكية جداً. ولهذا الأمر جذوره التاريخية، فقد جاء المستشرقون إلى بلادنا على مرّ السنوات وقاموا بمسح كلّ شيء، فدرسوا الأديان الموجودة في هذه المنطقة، ودرسوا كيف تتكوّن العشائرية والمذهبية والفرق بيننا وبين مجتمعات أخرى، في وقت كنا نتلهّى بأمور جانبية، لذلك فإنّ من يدخل إلى منطقتنا اليوم ليتحكّم بمصيرنا درس مجتمعاتنا عن بكرة أبيها وهو يعرف كيف يجيّش النعرات الطائفية والتوق نحو المطلق الموجود لدينا تحت عناوين مختلفة مثل عناوين «الجهاد» و «النكاح» لأنهم يعرفون أنّ هناك مجتمعات تائهة وقابلة للتأثر بهذه العناوين، وهذا ما أسمّيه «التدين الزائف» وهو أداة لنسف المجتمعات العربية من الداخل، وسبب توجه الأفراد نحو الدين هو كما قلت سابقاً فشل الفكرة القومية في توحيد المنطقة حول فكر معيّن، ونحن اليوم نشهد تفتّت الوطنية والرجوع إلى تفريق كل مكونات المجتمع لتدميره.

كيف تنظرين إلى الانتقال من شعارات الحرية والديمقراطية إلى التوظيف الديني؟

ــ الحرية والديمقراطية كانتا فقط جرعة متفجرة لتضرب الدولة، بعد ذلك بدأ التوظيف الديني عبر التديّن الزائف الذي يرفض الانتماء إلى الجماعة حيث أصبح الفرد يفكر في أنه ينتمي إلى مكوّن ضدّ المكوّن الآخر ويرفض الاعتراف به، وهذا ما سبّب الفوضى والخراب وأعطى تبريراً لكلّ نوع من أنواع العنف والتعدّي على الإنسان والتراث والبنى التحتية للدول.

هل تخشين أن تنجح هذه الإمارات السلفية في التوسّع؟

ــ للأسف هم نجحوا في ذلك، وهناك مساحات شاسعة من المنطقة تخضع لهذا المخطط جوراً، تحت ضغط شتى أنواع الترهيب، ونحن نعرف أنّ هناك ملايين الأشخاص الذين كانوا يعيشون ضمن دول وضمن مجتمعات متحضّرة يقومون بالتسليم للإرهابيين ولا حول لهم لا قوة، وللأسف فإنّ من يدّعي اليوم أنه يريد محاربة الإرهاب هو من ابتدع الإرهاب وموّله وما زال يديره حتى يحقق أهدافه، وهذه الغارات التي يتحدثون عنها هي أشبه بأفلام هوليوود. كل ذلك وما زلنا نتلهّى بأمور ثانوية وفئوية في وقت هناك سيناريو يعدّ لهذه المنطقة سيأخذنا وسيأخذ مستقبل أولادنا إلى اللارجعة وهذا تفكيك للذاكرة الإنسانية وتدمير حضارتها وخلق مجتمع بلا لون ولا قيم ولا تاريخ، مجتمع استهلاكي وسطحي.

في منطقة متنوّعة ومتعدّدة ثقافياً ودينياً وحضارياً كالمشرق، كيف يجب أن يكون التعليم الديني، حتى نقوم بتنشئة أجيال منفتحة وتعزيز ثقافة قبول الاختلاف وبالتالي قبول الآخر؟

ــ إنّ التعليم الديني يشهد انحطاطاً كبيراً، حيث أنّ الطفل يتلقى المعلومات وليس العلم، لذلك هو لا يعرف ما معنى إنسان، ما معنى إنسانيته، فالتعليم الديني ليس سؤلاً وجواباً، بل هو صقل لشخصية الإنسان لكي يكون على مستوى إنسانيته.

أما بالنسبة إلى التنوّع فيجب أن يرتكز التعليم الديني إلى قبول ونقد الآخر، أي يجب أن يقبل المسيحي بالمسلم ويقبل المسلم بالمسيحي وينتقده في الوقت نفسه، فليس كل ما تقوله الكتب المقدسة غير خاضع للنقاش. فإذا لم يكن التعليم الديني أداة احتوائية، فإنه يتحوّل إلى فوضى وأداة حرب. هناك تباين وتمايز بين الأديان، ولكن الرشد هو أن يقبل بعضنا بعضاً وأن نكرّس قيم العيش الواحد والعمل بما يخدم مصلحة هذا التجمع الذي نسمّيه الوطن، لكنّ المؤسف في لبنان أنّ الحرب أفرزت إمارات دينية ومذهبية وهي تتكرّس أكثر فأكثر حتى في الأمور اليومية والأعياد والمناسبات، فلا يكفي أن تكون هناك جمعيات ومؤسسات للحوار الإسلامي ـ المسيحي، في وقت لا نلمس هذا الواقع على الأرض، بل إنّ الخوف من الآخر يكبر كلّ يوم، ولم تنعكس تلك اللقاءات الإسلامية ـ المسيحية والقمم الروحية على الأرض. إضافةً إلى ذلك ليست هناك برامج في وسائل الإعلام تكرّس قيم وحدة العيش وتلطف الأجواء وتوحّد العقول بل كلّ ما نشاهده هو برامج حوارية سياسية تكرّس في معظم الأحيان هذا الواقع المنقسم.

الإعلام المنصف

كيف يمكن خلق إعلام منصف للقضايا الإنسانية؟ وماذا عن تجربتك في هذا المجال؟

ــ نحن نتعاطى مع كلّ وسائل الإعلام، ونحاول أن نخلق في كلّ مكان إعلاماً منصفاً، وأنا أعتبر أنّ هناك وسائل إعلامية كبيرة في الغرب قد أنصفتنا، على سبيل المثال لا الحصر، كصحيفتي «الغارديان» و«دايلي تلغراف» البريطانيتين، وهناك إعلام موازٍ على شبكة الانترنت، وهو منصف أيضاً، وفي المقابل تلجأ صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية إلى تلفيق أخبار وخلق روايات كاذبة. لا أستطيع أن أقول إنّ هذا هو مشروعي أو دعوتي لكنني أعتبر أنني تمكنت خلال السنوات الأربع الماضية، منذ اندلاع الأزمة السورية، من تحقيق تقدم في هذا المجال، لأنني وجدت نفسي على المتراس ويجب أن أدافع عن الإنسان الذي هو قضيتي، وما قلته لا يزال محفوظاً وأنا مسؤولة عنه، وقد اتخذت مواقف وسطية جامعة تصبّ في خدمة الإنسان وتخفيف معاناته والمصلحة الوطنية في سورية وفي لبنان. أنا لا أهدف إلى تحقيق أي مصلحة شخصية، وعندما ساعدت أهالي المعضمية في سورية كان هدفي فقط مساعدتهم، وحين أدخلت النازحين من عرسال إلى سورية، رغم أنني انتُقدت، كنت أنظر إلى الأمور من المنظار الإنساني، أما الأمور الأخرى فهي وظيفة القوى الأمنية، الأمر يتعلق بحياة مواطنين معظمهم من النساء والأطفال يرغبون في العودة إلى بلدهم، وأنا فخورة بأنني لم أتحرّك في هذا المجال إلا بدافع إنساني.

مؤتمر واشنطن

اعتبر معظم المحللين والمتابعين لمؤتمر واشنطن لدعم المسيحيين، أنه كان في ظاهره دعماً وفي باطنه مؤامرة، فما رأيك، كونك كنت من بين المشاركين فيه؟

ــ لقد شارك خمسة بطاركة من المشرق إضافةً إلى رئيس مجمع الكنائس الشرقية الكاردينال ليوناردو ساندري في هذا المؤتمر، والجهة التي نظمته هي منظمة تأسّست منذ أشهر، تحت اسم In Defence of Christians ، وكان هناك سببان لمشاركتي في المؤتمر أولهما، أنني أردت الوقوق إلى جانب البطريرك غريغوروس الثالث لحام، والسبب الآخر هو الفضول بعد أن زعمت إحدى الصحف اللبنانية أنّ هذا المؤتمر مموّل من الدولة السورية.

وبالعودة إلى سؤالك، فقد شعرت خلال هذا المؤتمر الذي يُفترض أنه لحماية المسيحيين بأنني في خطر، وكان هناك تحذير بأن لا يتطرق البطاركة والمشاركون إلى المواضيع الساخنة خلال المؤتمر، إذ كانت أول كلمة ترحيب بنا في أميركا التي تدعي الديمقراطية هي «اصمتوا»، كما جرت محاولات لمنعي من التحدث خلال المؤتمر على رغم أنني معروفة بأنّ عملي هو عمل مصالحة، وقد رشحت لجائزة نوبل للسلام بسبب هذا العمل، ولست كما يُقال إنني مع النظام، أنا أتعاطى مع الدولة السورية وليس مع النظام، ولا يحق لأحد أن ينزع عن دولة مثل سورية صفة الدولة وحصرها بكلمة «نظام». وفي المقابل كانت هناك حرية تعبير مطلقة لكلّ شخص متصهين، وهذا ما سبّب لنا خيبة أمل كبيرة.

أما بالنسبة إلى المؤامرة، فقد تجسّدت في تصريح السيناتور الأميركي تيد كروز والذي دعا فيه مسيحيي المشرق إلى التحالف مع «إسرائيل»، وكأنه يطرح أن نتعاون مع «إسرائيل» لمواجهة «داعش»، وهذا ما نرفضه رفضاً مطلقاً، ومجرّد أنهم احتلوا أرض فلسطين لدواعٍ دينية زائفة فهذا نوع آخر من الداعشية، وقد شعرت أنا شخصياً بالإهانة من هذا التصريح، فأنا فلسطينية فليعد لي «الإسرائيليون» أرضي».

ومن جانب آخر، فإنّ مشاركة المتصهينين في المؤتمر إهانة لنا، وأول من كان يجب أن يضمّهم المؤتمر هم المسلمون لأنهم هم من دافعوا عن المسيحيين في الموصل، وهناك من استشهدوا دفاعاً عن المسيحيين، وهم أول المعنيين بمواجهة «داعش»، وخصوصاً السنّة الذين يرفضون فكر هذا التنظيم، وإذا قمنا بإحصاء عدد الشهداء في الحرب على سورية نجد أنّ أكبر نسبة هي من السنّة ومعظمهم في الجيش السوري.

لذلك، اعتبرنا أنّ السيناتور الأميركي ومنظمي المؤتمر لم يحترموا مشاعر المشاركين وبينهم عرب يعيشون في أميركا أو جاؤوا من دول عربية، وكان استنكارنا طبيعياً لا سيما البطريرك لحام الذي طالب بطرد السيناتور المتصهين من القاعة. لقد أرادوا أن نستمع إلى كروز ونصفق له، لكي يذهب بعد ذلك ويطمئن أوباما بأنّ المسيحيين يسيرون مع الأميركيين في الاتجاه نفسه، لكنّ هذا ليس صحيحاً، فاتجاهنا مختلف وهناك تحوير من قبلهم للواقع التاريخي، أنا أتمنى أن تكون هناك دولة حامية للجميع وحامية للإنسان، ولكن حين نعود في الزمن نجد أنّ المسيحيين كانوا قبل العام 1948 يشكلون 25 في المئة من عدد السكان في فلسطين أما اليوم فقد أصبحوا أقلّ من واحد في المئة من السكان. فكيف تدعي «إسرائيل» أنها تحمي المسيحيين؟ وهي في الوقت نفسه تزعم أنّ القدس هي عاصمتها.

اللقاء مع أوباما

وماذا عن لقاء البطاركة والرئيس الأميركي باراك أوباما؟

إنّ مجرد التداول في الإعلام بإمكانية إعطاء الرئيس الأميركي موعداً للبطاركة أو لا هو إهانة لهم، وردّ البطريرك لحام على ذلك قائلاً: «نحن من نقرّر إذا كنا نريد لقاءه أو لا». وبالنسبة لي فأنا أعتبر أنّه كان يُفترض بأوباما كرئيس دولة يحترم نفسه وموقعه أن يحسم أمره في شأن هذا اللقاء، لأنّ عدم الحسم هو إهانة للبطاركة، والأكثر إهانة في الموضوع هو أنّ الرئيس أوباما استقبل البطاركة من الباب الخلفي للبيت الأبيض، وقد خضعوا لإجراءات أمنية معينة، كإبراز جوازات سفرهم أمام الأمن، والأمر الثالث هو وصول البطاركة قبل يوم واحد من الخطاب الشهير لأوباما الذي أعلن فيه عما ستفعله إدارته لمحاربة «داعش».

هل تعنين أنّ المؤتمر لم يحقق الغاية المرجوة منه؟

ــ لقد لاحظنا أنّ المؤتمر انتهى بمجرّد لقاء البطاركة مع أوباما من دون أن يعلن المؤتمر أية توصيات أو أي بيان ختامي أو يحدّد موعداً لمؤتمرات لاحقة، وهذا ما يطرح تساؤلات عن الغاية الحقيقية منه، وإنْ كان المنظمون يدّعون أنّ هذا المؤتمر هو مبادرة للدفاع عن المسيحيين، أقول لهم: مبادرتكم ولدت ميتة.

دير معلولا

الدير التاريخي في معلولا مصنّف ضمن التراث العالمي، فهل تمّت استعادة جزء ذي قيمة أساسية من المقتنيات والموجودات التي سرقت؟

ــ تمكنا بفضل مساعدة أحد الأشخاص من استعادة جزء لا بأس به من المقتنيات والأيقونات ونحن في انتظار استعادة المزيد منها، كما أنّ هناك بعض المتموّلين الذين أبلغونا استعدادهم لتقديم كلّ ما يلزم لإعادة ترميم الدير.

لنحمل مشعل الإنسانية

ما هي رسالتك إلى القراء وإلى المتابعين لعملك الإنساني؟

ــ أختتم حديثي بصلاة وأطلب من الرب يسوع أن يحمي هذه المنطقة وأن يساعد المنكوبين ويعطيهم بارقة أمل وأن يساعد الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن خلال هذه الحرب، وأن يساعد الأجهزة الأمنية على توقيف كلّ تجار الموت والسلاح، وأن يوقف غوغاء مهندسي الخراب، الذين يريدون تخريب المنطقة وتقسيمها وتجريدها من تراثها، وأطلب من الرب أن يظهر لأنقياء القلوب نوره الأزلي. كما أنني أدعو أبناء هذا المشرق إلى العودة إلى الجذور فكلنا إخوة ويجب أن نحمل مشعل الإنسانية والقيم الأبراهامية وأن نتحد في مواجهة القوى الظلامية، وأن لا نكون أداة لتخريب بلادنا والمنطقة التي هي قلب الإنسانية.

تصوير: أكرم عبد الخالق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى