الوطن

العرب في الصراعات الدولية على البحر المتوسط نائمون

} د. وفيق إبراهيم

يخضع البحر الأبيض المتوسط مجدّداً لصراعات دوليّة وإقليمية عنيفة تعيد إنتاج القتال التاريخي للسيطرة على مياهه الذي بدأ قبل آلاف الأعوام.

كان إغريقيّاً ـ يونانيّاً، ورومانيّاً ـ بيزنطيّاً، وأمويّاً ـ عربيّاً، ومملوكيّاً وعثمانيّاً.. إلى أن استقرّ في أحضان أوروبا بقوتيها الفرنسية والإنكليزية، لكن الأميركيين المنتصرين منذ الحرب العالمية الثانية احتضنوه حتى الخنق على جاري عادتهم ناصبين في عبابه مئات البوارج والغواصات، إلى جانب قوة سوفياتيّة كانت طموحة وعودة اوروبية خجولة لا تزال حتى اليوم تشكل مدداً إضافياً للهيمنة الأميركية.

لكن سقوط الاتحاد السوفياتي واندلاع الاضطرابات الواسعة في العالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي بإشراف أميركي كامل، حول البحر الأبيض المتوسط الى بحيرة أميركية كاملة شكلت الجزء الأكثر أهمية في الجيوبولتيك.

وعجّلت في التنظيم الأميركيّ لحركة نشر الفوضى في دول المنطقة تمهيداً لإعادة تشكيلها وفق ما كانت تريده الدولة الأميركية العميقة.

إلا أن متغيّرات مفاجئة عرقلت هذا المشروع، وتتعلّق بصمود إيران ونجاح الدولة السورية في إلحاق هزيمة بأقوى مشروع إرهابي من مئات آلاف العناصر المدعومة إقليمياً ودولياً وعربياً، بالإضافة إلى نجاح حزب الله في صد العدوانية الاسرائيلية على لبنان، واستمرار العراق في مناوشة المشاريع الأميركية ـ التركية على أرضه. ونجاح اليمن في تحرير الجزء المنيع تاريخياً من أراضيه في صعده وصنعاء والأماكن المحيطة بهما في الساحل والوسط.

إن هذه الاضطرابات التي اجتاحت العالم العربي بقسمَيْه الأفريقي والآسيوي فتحت الصراعات على مصراعَيْها، خصوصاً أنّها تزامنت مع اكتشافات «غاز» في معظم البلدان المطلة على المتوسط وسواحله ومياهه الإقليمية والجرفية التي يخضع تقاسم الثروات فيها للقانون الدولي نظرياً ولقانون القوة عملياً.

لقد أنتج هذا الصراع طموحاً أميركياً للسيطرة على الغاز وإصراراً روسياً على التحكّم بأسواقه ومحاولة أوروبية للعق قسم منه، خصوصاً من الدول الأوروبية في اليونان وايطاليا وفرنسا المطلة على البحر، ولما لا وقبرص الأوروبية هي موقع إنتاج مهم للغاز ومحطة عبور مواصلاتية للغاز العربي والاسرائيلي الراغب بالسيطرة على اسواق اوروبا.

لكن الطرف الأعنف في الصراع على الغاز تجسّده تركيا التي أصبحت تمسك بثلاث مناطق في المتوسط فيها كميات وافرة من الغاز، وتبدأ بالقسم التركي من قبرص الذي تحتله قوات تركية منذ 1974 وتنتقل إلى ليبيا التي ترتبط الجمهورية التي يسيطر عليها الاخوان المسلمون في طرابلس الغرب بمعاهدات مع تركيا الأردوغانية حامية فدرالية الاخوان المسلمين، كما تنتشر قوات تركية محتلة في الغرب الشمالي السوري وعلى مقربة من آبار الغاز في الشمال الشرقي السوري المحتل، ولديها قوات تحتل جزءاً من أراضٍ عراقية فيها نفط وغاز وأكراد.

اما الطرف الإقليمي الثاني في هذا الصراع فهو «إسرائيل» التي تريد تصدير الغاز من فلسطين المحتلة، إنما عبر تحالف يجمعها بمصر وقبر واليونان والأردن يجمع بين الاقتصاد والسياسة بمباركة أوروبية أميركية سعودية.

هذا إذاً قتال حتى أقسى الدرجات له بعدان: جيوبولتيكي دولي، بين روسيا وأميركا وإقليمي بين تركيا وتحالفاتها و»إسرائيل» وتحالفاتها، بشكل يغيب فيها أصحاب الغاز والنفط عن إبداء حتى مجرد رأي بسيط والتفاوض على مستقبل موارد الطاقة عندهم.

للإشارة فقط فإن استطلاعات أولية أجرتها دول اوروبية وأميركية مهتمة تقول بأن مياه البحر المتوسط وسواحلها تختزن نحو 143 تريليون قدم مكعب من الغاز ومليار وتسع مئة مليون برميل من النفط، وهذه استطلاعات أولية يعتقد الخبراء الروس أنها غير حقيقية وتخفي ضعفَيْ الكميات الحقيقية الموجودة للتخفيف من حدة التنافس الداخلي.

إنما من هي الدول التي تمتلك هذه الاحتياطات؟

إنها سورية ولبنان وفلسطين المحتلة ومصر وليبيا وقبرص، هذا من دون احتساب إمكانات قطر الهائلة وما يتردّد عن ثروات غاز في الربع الخالي السعودي والعراق.

هذا يكشف أسباب الصراع الدولي والإقليمي، لكنه ليس مبرراً لانكفاء أصحاب الغاز عن تحديد مصيره، ولعلهم يربطونه بالسيطرة الأميركية الجيوبولتيكية عليهم، حالمين بتقاسمه معهم مقابل حماية أنظمتهم السياسية.

لذلك يبدو واضحاً ان هناك تخطيطاً أميركياً للسيطرة على الغاز العربي، ودفعه الى الأسواق الأوروبية عبر قبرص واليونان.

فيصبح منافساً للغاز الروسي الذي قد يخسر بذلك الكثير من أهمياته الاقتصادية والاستراتيجية على مستوى الطموح الروسي بالعودة الى نظام التعددية القطبية، لذلك يعمل الروس على الربط بين الغاز السوري وامتداداته البحرية لعرقلة الخط الإسرائيلي او منافسته بالغاز الإيراني.

كما أن الضغط التركي باتجاه إيجاد موطأ قدم في عالم الصراع على الغاز ليس ضعيفاً، على الرغم من العداء الأوروبي ـ الأميركي له، والدليل انه يسيطر على الجزء القبرصي المواجه لليبيا عبر مياه المتوسط بما يؤدي الى سيطرته على قسم كبير من المياه الإقليمية والدولية بين البلدين، فضلاً عن سيطرته على الجرف الواقع بين سواحل تركيا وقبرص اليونانية، وتعمل تركيا على الاستحواذ على قسم من ثروات شرقي الفرات السوري كحال الأميركيين الذين يسرقون النفط منه أيضاً.

يتبين أن الصراعات على هذه الثروات متشابكة وتضع أوروبا وأميركا وروسيا في مواقع تنافسية على موارد يمتلكها طرف ثالث لا يُبدي أي حركة.

فمصر منهمكة باستيراد الغاز من «إسرائيل» التي تقتل الناس في غزة وسورية وتهدّد لبنان واليونان مصرّة على الاستيلاء على غاز قبرص التي تنتمي إلى اليونان القوميّة والتاريخ.

وتركيا ذاهبة نحو التهام غاز ليبيا وقبرص وسورية باسم الاخوان المسلمين وأميركا تنظّم أحلاف السطو لعرقلة الروس، وهؤلاء يعملون على النفاذ من العراقيل الأميركية للتموضع في عالم جيوبولتيكي جديد.

إن ما يثير الشفقة هم العرب أصحاب الغاز الذين لا يكترثون لما يجري، وكأنهم لا يزالون كما كانوا في مرحلة الحرب العالمية الثانية عندما سيطرت اوروبا وبعدها أميركا على مواردهم النفطية وركّبت لهم كياناتهم السياسية الحالية على وقع الانتشار النفطي.

ألم يقل رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل في معركة العلمين في الحرب العالمية الثانية إن بلاده انتصرت على الألمان على «بحر من الزيت»، فهل يتكرّر المشهد وينتصر المتنافسون الدوليّون على وقع بحر من الغاز؟ هذا برسم سورية وحليفتيها الإقليمية إيران والدولية روسيا لمجابهة المشروع الأميركي وإعادة العرب الى القرن الحادي والعشرين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى