ثقافة وفنون

فعالياته خطّت تاريخاً وحضارةً على امتداد ليالي بيروت بين الداخل والعالم… و«السوليدير» كاذبة ولو صدقت! قضية التياترو الكبير… مؤامرة إهمال أم عبثيّة؟

} رنا محمد صادق

حكاية البحث عن ثنايا الوطن بين جدران الأبنية وذاكرة المدينة نبضٌ لا تنتهي معالمه، وبحث جلّ ما استنبط في الإعادة والإحياء. ومن جيل إلى جيل تكاثرت السجالات والتساؤلات عن عمليات الكبح المتكرّرة والجرائم التي تستباح فيها حضارة المدينة وتاريخ المكان وصدى الزمان، وتصيب العمران والتاريخ الحضاري لنبض المدينة الصامدة بيروتبيروت تلك التي حملت في حضنها النار والبارود، ونسجت من عبق الحرب الحضارة والتنوّع الثقافي، ونثرت بقدرتها موسيقيّين ومغنين وملحنين في شتى أرجاء العالم. بيروت منحتنا تاريخاً عريقاً وأملت الحفاظ عليه، وها نحن اليوم نقف عند مفترق الطريق باحثين عمّا منحتنا إياه ذاكرة المدينة الصاخبة، وهي التي لا زالت تنفض عنها معالم الحرب الأهلية، التي تعاني اليوم الخيبة جراء التحوّلات العمرانية والتجارية فيها، وتغيير وجهتها الثقافية والحيوية والمعيشية. الجرائم الثقافيّة التي شهدتها بيروت لم تندثر حتى اليوم، ولم ينكفئ أصحاب الشركات الضخمة عن محو تاريخها الحضاري الذي طال السينما والمسارح وشتى أنواع الفنون.

هذه الجرائم طالت التاريخ والحضارة والثقافة للهوية اللبنانية من مسرح الكريستال، الأمبير، وزهرة سورية والبيكاديلي والتياترو الكبير، كلّها مسارح لها بصمة في ذاكرة اللبنانيين. أنعشت التحرّكات الشعبية اللبنانية الذاكرة حول الصرح الثقافي الكبير في بيروت المتمثل بالتياترو الكبير. هذا الصرح مهملٌ، مهدّدٌ ومنسيٌّ رغم أنه شكّل نموذجاً حيّاً وواقعاً منذ أن شيِّد عام 1930.

شركة «السوليدير» استولت على ملكيته، ووعدت بإعادة فتح المسرح أمام جمهوره منذ عام 1990 وعلى «الوعد يا كمّون»، فأضواء التياترو مطفأة وأبوابه مغلقة حتى اليوم. ولم تشهد جدرانه سوى التفتت والتآكل مع مرور الزمن وما زال مشروع ترميمه تحت الدراسة والإنشاء. فهل يحقّ للمالك التحكّم بقرار الإغلاق أو الاستباحة بصرف النظر عن التاريخ الثقافي والاجتماعي لهذا الصرح الثقافي ودوره في ذاكرة اللبنانيين؟ وإلى متى ستكون بيروت «ضحية» المصلحة الذاتية لبعض الأفراد؟ وهل من مؤمراة وراء هذا الإهمال، وما موانع ترميمه لإعادته إلى وظيفته التي بنيَ من أجلها؟

من هنا، ولأهمية هذا التياترو كجوهرة معمارية تاريخية وثقافية في وجدان اللبنانيين «البناء» اختارت قضيته في عددها المئة خصيصاً لتضيء على إحدى ركائز بيروت الحضارية.

 المكان وذاكرة المدينة

أنشئ التياترو الكبير في شارع الأمير بشير قرب منطقة المعرض في بيروت سنة 1927، في تصميم للمهندس يوسف أفتيموس.

تاريخ هذا الصرح المسرحي القديم ذاكرة قائمة للأجيال من خلال مسرحياته وأفلامه وحفلاته. اذ يقول الكاتب رياض جركس في كتابه «بيروت في البال» ص 49-52، يعتبر التياترو الكبير حديثاً بالنسبة إلى المسارح التي سبقته.

وقد أنشأه جورج ثابت كمسرح قبل أن يتحوّل بشكل نهائي إلى دار للعرض، وقدّ غنّى فيه محمد عبد الوهاب سنة 1931 م.، وأم كلثوم، ومثّل على خشبته يوسف وهبي وبعض الفرق الأجنبية، وأقيمت فيه حفلات تمثيل كبرى وقد استعمل كمسرح لفترة، لأنه أنشئ على هذا الأساس.

إضافةً إلى مسرحيات يوسف وهبي كانت هناك مسرحيات لعلي الكسّار. أما روّاد المسرح فكانوا كبار الشعراء والكتّاب أمثال الأخطل الصغير، أحمد شوقي، وكبار الفنانين السوريين، اللبنانيين والمصريين.

عُرضت فيه أفلام هامة كفيلم «الوردة البيضاء» لعبد الوهاب وسميرة خلوصي، وفيلم «غادة بنت الصحراء»، ومسرحية «وين أبوك» و«رد قلبي» وغيرها من المسرحيات الدرامية والهزليّة.

أهم المسرحيات التي قُدّمت عليه كانت مسرحية «كرسي الاعتراف» لعميد المسرح العربي وفرقته رمسيس يوسف وهبي، ومسرحيته «الولدان الشريدان»، ومسرحية «راسبوتين» و«غرام الأعمى» عام 1936. والمسرحية اللبنانية «عروس الخيام» من تأليف سلام فاخوري وقامت بالبطولة النسائية فيها سعاد كريم.

أما من فرنسا فقد زارته فرقة «la comédie francaise» وهي من أشهر الفرق الفرنسية آنذاك. وكانت تزور لبنان مرة كل عامين تقريباً، وكانت الفرقة تستقدم معها معدّاتها ولوازمها معها وبخاصة الأزياء، التي أبهرت اللبنانيين بغناها وكمالها. إضافة إلى فرقة «موغادور» الباريسية.

في عام 1945 تحوّل المسرح إلى دار للعرض السينمائي وبعض الحفلات الغنائية. هذا وتوقف العرض السينمائي في التياترو الكبير عام 1982 أي بعد بدء الحرب الأهلية اللبنانية بسبع سنوات.

في الهندسة والعمارة

يصف الكاتب نبيل أبو مراد التياترو الكبير في كتابه «المسرح اللبناني في القرن العشرين»: «… دخلت، وتفرّجت عليه، ودُهشت أمام هندسته وفخامته، وأستطيع الآن أن أصفه على الشكل التالي: مدخل أول حيث شبابيك بيع التذاكر، فمدخل ثانٍ حيث صالة مستديرة للانتظار، منها سلّمان إلى البلكون الأول الرئيسي، فإلى البلكون الثاني الثانوي. أما فضاء الصالة فقد دُرس بطريقة مسرحية صرف، اذ احتلت الخشبة مساحة مريحة، ووراءها جاءت الكواليس وغرف الممثلين المنظّمة.

كما وزّعت مقاعد الجلوس بالنسب المفروضة والمعقولة للمسرح. فاحتوت الأوركسترا على أربعمئة مقعد، والبلكون الأول على مئة وخمسين، والثاني على ثمانين مقعداً. بشكل عام، يمكن القول إن استعمال الفضاء والمساحات الداخلية لهذا المسرح خضع لجميع معطيات الرؤية والسمع والراحة والنظافة التي تميّز المسارح المتخصصة التقليدية».

في الثقافة

كان هذا المسرح يلعب دوراً مهماً في الحياة الفنّية اللبنانية، بكونه يفتح أبوابه أمام الفرق المسرحيّة اللبنانية التي بدأت تتشكل باضطراد، فتكاثرت طلبات الحجز عليه، فلم تكن كواليسه تعرف الهدوء إلا لماماً.

يتذكّر المسرحيّون اللبنانيّون القدامى أمثال محمد شامل، ووجيه ناصر، وفيليب عقيقي، وسعاد كريم، وجوزف الغريّب وغيرهم أن هذا المسرح مثّل دوراً مهماً في الحياة المسرحية اللبنانية بين الثلاثينيّات والأربعينيّات من القرن العشرين، حيث كان مجهّزاً بآلية خاصة للديكورات المتحركة تساعد على السرعة في تغيير المناظر، وفيه فتحة في وسط الخشبة تستعمل في الخدع المسرحيّة، وستارة ثانية تفصل عند الحاجة، الخشبة إلى نصفين لتساعد في تجهيز مناظر المشهد التالي خلفها.

في القيمة

يركّز المعماري رهيف فياض في حديثه مع «البناء» على مفاصل أساسيّة في هندسة مبنى التياترو والقيم التي يشكّل منها واجهة حضارية لبيروت، حيث يقول: تتقسم أهمية التياترو التراثية والحضارية إلى خمس قيم، وهي:

القيمة التاريخية: هذا الصرح مصنّف مع شارع المعرض تراثياً حيث بُني في الثلاثينيّات أي في ظلّ الانتداب الفرنسي، الأمر الذي يُعطيه صفة تاريخية كبيرة.

القيمة المعمارية: تصميم التياترو كتصميم المسارح الحديثة، من الخشبة الواضحة، السقف الذي يفتح، الشرفات التي تطلّ على الخشبة، تناسق كتلته بصورة عامة بين امتداداتها وارتفاعاتها ووحدة اللغة المعمارية المستعملة فيه من حيث الأقراص والفتحات. كلّ هذه العوامل سمحت لأن يكون للمكان خاصية في الحقبة التي بني فيها والتي تعبّر عن «الكولونيالية المستعربة» آنذاك.

القيمة المعمارية المضافة: والتي تعود إلى مؤلفه يوسف بيك أفتيموس الذي كان أحد أهم روّاد العمارة في عصره، كان وزيراً للأشغال في عهد الانتداب الفرنسي. وعند الحديث عنه نستذكر أعماله كالتياترو الكبير والبيت الأصفر.

 القيمة المدينيّة: القيمة المدينيّة تعني أن يساهم المكان في كتابة وصنع النسيج المديني، القائم على مجموعات مبانٍ. وهو الأمر الذي نشهده من ناحية الغراند تياترو.

المساهمة في كتابة تاريخ المدينة: التياترو نبض من أساسيّات تاريخ بيروت ولا ينفصل عنها بجذور الذاكرة في الحقبة التي يعبّر عنها.

 هل سينهار؟

تكاثرت الإشاعات حول احتمالية انهيار التياترو ووقوعه من جراء عوامل عديدة، لكن المعماري رهيف فياض يؤكّد أن ذلك غير وارد حالياً من حيث البنى والجدران. لكنه، لا يستبعد أن تكون هناك رغبة مضمَرة لدى البعض في هدمه لبناء مشروع تجاري مكانه.

 …وصمت التياترو

دُمّر التياترو الكبير إبان الحرب الأهلية اللبنانية وصمتُ التياترو لم يُخترق سوى مرتين بعد الحرب، الأولى عام 1997 حين قدّم المخرج المسرحي الفرنسي جيل زافيل عرضاً بعنوان «تحية إلى التياترو الكبير» بالاشتراك مع ممثلين لبنانيين، محاولاً تحفيز الجمهور اللبناني على استعادة دوره الثقافي.

أما الثانية فكانت عام 1999 حين قدّم المخرج المسرحي الفرنسي اللبناني نبيل الأظن مسرحية غير معروفة للشاعر جورج شحادة بعنوان «لوعة حب»، في الذكرى العاشرة لوفاة شحادة وحضرها سياسيّون ودبلوماسيّون وفنانون.

كما أن بعد انتهاء الحرب كانت هناك محاولات لترميمه وإعادة افتتاحه أمام الجمهور بإشراف وزارة الثقافة، بمبادرة من وزير الثقافة السابق غسان سلامة وفنانين مثل المسرحية نضال الأشقر والمخرج الراحل نبيل الأظن، لكن المحاولات باءت بالفشل لكونه مملوكًا لشركة «سوليدير» الخاصة.

مراجع:

كتاب «مسارح بيروت وتواريخها».

كتاب «المسرح اللبناني في القرن العشرين» لنبيل أبو مراد.

كتاب «بيروت في البال» للكاتب رياض جركس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى