أخيراً وُلِدت الحكومة… ولكنْ!
ناصر قنديل
– ربما تكون أقصر مدة لولادة حكومة سجلتها حكومة الرئيس حسان دياب، وقد اكتملت قبل نهاية المهلة التي حدّدها بسقف ستة أسابيع، بحيث لا تزال متبقية منها عشرة أيام. وهي بالتأكيد من الحكومات المصغّرة التي لم يتشكل منها إلا القليل منذ اتفاق الطائف، واللبنانيون جميعاً كمواطنين ومعهم كل مَنْ يعنيهم أكثر من مجرد الحصص، هو أن تكون لنا حكومة أولاً، خصوصاً بعدما ظهر الفراغ ومخاطره، وبدأت الفوضى تدقّ الباب، والأزمات المعيشية والمالية ومخاطرها تتفاقم إلى حد يصعب توقع التعامل معه، وليس تخطّيه، من دون حكومة، أي حكومة.
– الأيام الأخيرة التي سبقت الولادة القيصريّة للحكومة العتيدة، تركت ندوباً على المولود الحكومي، وعبره على الحياة السياسية في البلد. وهذه الحياة السياسية هي المناخ الذي سيوفر الفرص لمعالجات مطلوبة بصورة عاجلة للمشاكل الاقتصادية والمالية والمخاطر الاجتماعية، في ظل وضع أمني يستدعي التعامل الهادئ والمدرك للمخاطر، ووضع إقليميّ ضاغط باستقطاباته وتحدّياته وتسارع تطوّراته، ولبنان بسبب ثروات الغاز والنفط من جهة، ومأزق الأمن الإسرائيلي من جهة مقابلة، والاستهداف الأميركي للمقاومة بسببهما، والعقوبات الظالمة التي فرضها على لبنان وموارد مغتربيه، في قلب الزلزال الإقليميّ وعلى فوالقه الخطرة.
– كانت تكفي الحكومة تحدياتُها الخارجية، والأزمات الاقتصادية والمالية، ووجود كتل سياسية كبرى تستعد لمعارضتها، ورمي ثقلها في الشارع وفي الخارج لإفشالها، واستنزافها بمواجهات سياسية وشعبية، وقادة أحزاب وتيارات سيجهدون لوضعها على خطوط تماس متفجّرة طائفياً ومالياً، واستعمال كل الوسائل المتاحة بما فيها علاقاتهم الخارجية لمنعها من الحصول على التمويل اللازم فوراً، واستعمال ما تيسّر من مشاعر الغضب الشعبي التي فجّرت حراك 17 تشرين الأول، وما تولّد من تعامل المصارف مع المودعين بودائعهم، وما يترتّب على حالات الصرف من العمل وإفلاس الشركات، وفوقها الطعن بالميثاقية الطائفية لتسمية رئيس الحكومة وعدد كبير من الوزراء. كل ذلك العداء كان كافياً، كي يجهد المعنيون بتأليف الحكومة لتفادي أي شقوق تصيب صف الغالبية النيابية التي وقفت وراء تسمية الرئيس المكلف، والتي ستكون معنيّة بتوفير الثقة النيابية المحفوفة بالمخاطر، وكي تتصرّف الكتل الكبرى التي تملك القدرة على تقديم تنازلات من صيغ تمثيلها المفترضة، لتخاطب بلغة التحالف والتشارك الأحزاب والكتل النيابية التي تشكل ضرورة لاكتمال الغالبية، وتعوّض بعضاً من بصمات وميراث التجاهل والتفرّد، وتصحح مساراً من تاريخ تراكمي عنوانه اعتبار أن الحلفاء ملزمون بتلبية الطلب لمنح الثقة، وأنهم ملزمون بقبول ما يُعرَض عليهم، وهو عموماً لا شيء، لكن هذا الممكن تمّ تجاهله، رغم جهود بذلها رئيس مجلس النواب نبيه بري وساندها حزب الله.
– كان القوميّون معنيّين بتفحّص هذه الجهود، كما هم معنيّون بدعم ولادة حكومة مناسبة وسريعاً، بل أسرع مما حدث، ولذلك لم يقوموا بتسمية مَن يمثلهم واكتفوا بدعم ترشيح نقيبة المحامين السابقة أمل حداد التي قام الرئيس المكلف بتسميتها، وفوجئوا بدون أن يقدّم لهم أيّ تفسير بالمطلق قبل أن يكون التفسير منطقياً أو مقنعاً، بسحب الاسم من التشكيلة، كما فوجئوا بعروض تقدَّم لهم بتبني ترشيحات سواهم الأخرى وارتضائها، بعدما صارت التسميات واضحة من القوى السياسية والأحزاب والكتل النيابية، وبالرغم من تدخلات إنقاذيّة قادها الرئيس بري وحزب الله، حرصاً على وحدة صف الحلفاء، وحماية لتاريخ من الشراكات المعمّدة بالدم مع القوميين، لم تفلح محاولات نفي قناعة القوميين أن المطلوب عدم مشاركتهم بتمثيل مسيحي. وهكذا فهموا حصر حقّهم بالتمثيل بمقعد درزيّ مضاف، رغم أنهم دائماً لا يرون أنهم يمثلون طائفة، ويملكون حضوراً يفتخرون به بين أبناء الطائفة الدرزية والكفاءات فيها، فقرّروا البقاء خارج الحكومة تثبيتاً لرفض تكريس مبدأ المرجعية الطائفية التي تملك حق الفيتو، وتثبيتاً لكون كتلتهم النيابية المكوّنة من ثلاثة نواب هي من الساحة التي يُطلَب منهم تقبّل إبعادهم عن التمثيل الوزراي فيها، وتأكيداً لكون القوميين لا يقبلون أن يصدر عنهم ما يساعد في استنتاج البعض أن بالمستطاع تطويعهم للتأقلم مع هذا الفيتو، ودائماً للتذكير بأن أهم رسائل الصرخة الجامعة للبنانيين كانت وستبقى بالدعوة للخروج من دولة الطائفيّات إلى الدولة المدنيّة.
– هذه الولادة القيصريّة للحكومة، من دون القوميين، ستصيب إقلاعها بنقطة ضعف سيكون عليها إثبات أهليّتها لتجاوزها. والقوميون لا يخرّبون ولا يناكفون، بل يراقبون من موقع تمثيلهم لتيار واسع في الرأي العام ومن موقع حرصهم على مصلحة البلد وصدقيّة وأهليّة الحكومة للتصدّي للمشكلات الحقيقية، خصوصاً أن الحكومة تولد ببصمة تعاكس المناخ الذي فرضه الشارع تحت عنوان السعي للخروج من الطائفيّة وأمراضها، والمعيار كان وسيبقى في قدرة هذه الحكومة على التقدّم بمشروع قانون انتخاب خارج القيد الطائفيّ تلتزم به في نص بيانها الوزاري، قبل أن تتوجّه لطلب الثقة، ثقة النواب وثقة الحراك، وثقة الشعب، واسترداد ثقة الجماعات المؤمنة بالدولة المدنية، والتي ترسم اليوم علامات سؤال حول مدى قدرة حكومة تولد في ظل حسابات وموازين طائفية طاغية على تمثيل جسر عبور نحو تخطّي الطائفية. وسيكون في هذا الامتحان الجواب على السؤال حول الدرس الذي أراده القوميّون من عدم المشاركة، وهو التذكير بأن الحسابات الطائفيّة والعصبيّات الطائفيّة لن تجلب للبلد إلا المزيد من الخراب.