الوطن

ماذا يفعل ترامب بالأميركيين؟

} د. وفيق إبراهيم

يجب على الرافضين للسياسات الأميركية في الشرق الأوسط أن يشكروا الأميركيين على انتخابهم لدونالد ترامب رئيساً لهم. وربما يعاودون شكرهم ثانية إذا جددوا له في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نهاية العام الحالي.

فالرجل صريح باعتماده الشفافيّة في التعبير عن حقيقة المصالح الأميركية التي لا تريد إلا السطو على الإمكانات الاقتصادية للدول، والتدمير السياسي والعسكري.

كانت الإدارات السابقة تسرق الاقتصاد العالمي بأساليب تبدو براقة، ومتعاونة مع البلدان في إطار ما يسمّيه الأميركيون المصالح المتبادلة. وكانت تتآمر وتغتال من دون الكشف عن أدوارها مع نفي دائم لأي اتهام تتعرّض له. اما ترامب فيعلن في بيان ساطع ان بلاده اغتالت مسؤولين عن دول أخرى وتريد أموالاً من الخليج وأعضاء حلف الناتو واليابان، والمانيا مقابل الحماية، وأنها لن تترك العراق قبل الحصول على كامل الإنفاقات المقدرة بأكثر من 35 مليار دولار مقابل قاعدة عين الاسد.

بذلك لم ينسَ ترامب أحداً من حلفاء بلاده إلا واستنزفه اقتصادياً وسياسياً.

فماذا كانت النتيجة حتى الآن؟

لا شك في أنه تمكّن من سرقة أكثر من ألفي مليار دولار من الخليج والصين (ضرائب عالية على سلعها الداخلة الى بلاده) وكذلك المانيا واليابان وكوريا الجنوبية وفرنسا، الأمر الذي استتبع خفضاً في الضرائب على الطبقات الفقيرة والمتوسطة في دولته، موسعاً بذلك من حجم مؤيديه وكاشفاً بهذا الأسلوب عن توثّبه للانخراط في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فأصبح الصراع في الداخل الأميركي بين رئيس يهندس سياسات بلاده الخارجية لتواكب طموحاته الرئاسية وبين سياسات الدولة الأميركيّة العميقة التي لا تقبل بأن تصبح سياسات بلادها مشابهة لسرقات عصابة تكمن وتسرق وتختفي. فهي تريد علاقات دائمة تبيح لها السيطرة المتواصلة والتدريجية على سياسات حلفائها في العالم وبالتالي على اقتصاداتها.

فتنجز بذلك هيمنة جيوبوليتيكيّة سرمديّة بموارد لا تنقطع، واستحواذاً على حركة التفاعلات العالمية بما يمنع أي صعود لقوى عالمية أخرى تهدّد الأحادية القطبية الأميركية.

هذا جانب من الصراع الداخلي، لكن هناك جوانب أخرى أكثر خطورة من الجانب الماليالاقتصادي ويرتبط بوضعية النفوذ الأميركي في العالم العربي وخصوصاً قسمه المشرقي.

وهذا يدفع الى المقارنة بين النفوذ الأميركي من 1990 وحتى 2010 وبين 2011 وحتى 2020. الامر الذي يكشف المدى الكبير للتسلط الأميركي على الشرق الاوسط في المرحلة الاولى التي اعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 ودامت اقل من عقدين الى ان انتهت في السنتين الأخيرتين من ولاية الرئيس الأميركي السابق اوباما.

هذا العقد الأخير وحتى هذا التاريخ يسجل أكبر تراجع أميركي منذ انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية وسيطرتها التدريجية والكاملة على العالم، عسكرياً واقتصادياً وبالتالي جيوبوليتيكياً.

هناك قسم بسيط من هذا التراجع يتحمله اوباما، لكن المسؤولية المركزية تقع على الناخبين الأميركيين الذين انتخبوا لاعباً في البورصات الأميركية وسمسار عقارات رئيساً لهم وهو بالطبع ترامب، الذي بنى سياسات السطو على أموال الحلفاء بالقوة، مع صخب إعلامي لا مثيل له في حركة تاريخ العلاقات الدولية وكأنه كان يتعمد بهذا الأسلوب وضع الناخبين الأميركيين في أجواء الابتزازات التي يقوم بها من أجلهم.

اما الجانب الآخر الذي كبّد الدولة الأميركية العميقة جزءاً كبيراً من نفوذها الدولي فيتعلق بنقل مستوى التأييد الأميركي لـ»إسرائيل» من مسألة استراتيجية مهمة الى قضية أميركية انجيلية توراتية يريد ترامب من إثارتها والعمل على تحقيق أساطيرها كسب الناخب الأميركيّ المنتمي الى الإنجيلية التوراتية وجذب الناخبين من اليهود الأميركيين مع مراكز قوته البنيوية في الإعلام والمصارف.

بذلك اصبحت مراكز القوة الأميركية تعمل على التأسيس لإنجاح ترامب في الانتخابات المقبلة بالسطو على أموال الحلفاء بالقوة والتشهير مع تحقيق المشروع التوراتي في فلسطين المحتلة، عبر منح «اسرائيل» كل ما تريده من أراض ومستوطنات وقدس وإلغاء للاجئين ووكالاتهم وتوطينهم في لبنان والأردن ومصر ونسف فكرة دولة فلسطينية مقابل بلدية لا سيادات لها وغزة مجردة من السلاح والتنظيمات المدافعة عنها.

بذلك يحقق ترامب الحلم الصهيوني بتمويل خليجي فتصبح الدول العربية المعترفة بـ»إسرائيل» أكثر من الرافضين لها.

لكن هذا السخاء الأميركي يظهر وسط تراجع كبير للنفوذ الأميركي في كل مكان تقريباً. وهذا يكشف انه مشروع غير قابل للتحقّق لا تعترف به حتى اوروبا، فكيف الحال بالصين وروسيا وتركيا وإيران والهند والعالم الإسلامي باستثناء إمارات النفط في الخليج.

بالنتيجة يتضح ان حسابات ترامب الرئاسية لا توازي وضعية بلاده في لبنان الذي يكاد يخرج من الهيمنة الأميركية الغربية للمرة الأولى منذ تأسيسه في 1948، وكذلك سورية التي نجت من أخطر مشروع أميركي منذ 1945 حاول تحطيم دولتها وكسر جيشها، ما اضطره الى الانكفاء الى شرقي الفرات في محاولة سطو على آبار النفط فيه، وترقب اكتشاف ثروات جديدة من الغاز، تماماً كالكاوباوي الكامن خلف الهضبة متربصاً بقطار يلوح في الأفق.

ماذا عن العراق؟ لم يتمكن الأميركيون من تطويع العراق منذ احتلاهم له في 2003، مكتفين بالاختباء في قواعد عسكرية وسط تراجع نفوذهم السياسي فيه وارتفاع حدة الإصرار العراقي على طردهم من ارض الرافدين.

اما إيران فنجحت بحيازة دور إقليمي كبير نتيجة لصمودها في وجه كل الاساليب الأميركية لتدميرها، من حروب وحصارات ومقاطعات واغتيالات.

كما ان المشروع الأميركي في اليمن لقي فشلاً ذريعاً بسبب صمود الحوثيين.

كما أن حلفاء أميركا في الخليج لم يعودوا أوصياء على العالم الإسلامي والعربي، فالسعودية تجتاز اضعف مرحلة في تاريخها السياسي وتفقد هالتها الجيوسياسية والدينية حتى تكاد تصبح دولة عادية تبحث عن حمايات لنظامها في كل مكان من اوروبا وروسيا و»اسرائيل».

هذه هي نتائج السياسات الترامبية التي استثمرت في امكانات الدولة الأميركية لانجاح ترامب في الانتخابات المقبلة ففقدت الكثير من أهمياتها العالمية، فهل يجدّد الأميركيون لترامب ويفقدون بذلك ما تبقى من أهميّاتهم؟ إنه قطار مجنون قابل للسقوط بصمود حلف المقاومة في الشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى