خطاب ترامب والقنوات الإيرانيّة
ناصر قنديل – طهران
– يشكّل خطاب الرئيس الأميركي في مطلع العام تحت عنوان «الأمة في حال الاتحاد»، في آخر سنة من ولايته الأولى عندما يكون مرشحاً لولاية ثانية. وهذا هو التقليد العام المكرّر، مسودّة اختبارية لخطاب الترشيح، ومحاولة لجمع العناوين التي تصلح لتشكيل سياسته للولاية الثانية، وفي حال رئيس يكثر من الاستثمار على البراعة الكلامية وتأثيرها، وهو الآتي من صفوف مقدّمي البرامج التلفزيونية رغم ثرائه وإتقانه للغة المقاولين وتجار العقارات في السياستين الداخلية والخارجية، كما أنه الحاضر على وسائل التواصل وفي مقدّمتها تويتر الذي صرف من خلاله وزير خارجيته السابق ريكس تيليرسون، بحيث تصير للخطاب أهميّة مضاعفة في فهم نيات الرئيس دونالد ترامب ونظرته لولايته الثانية، ولما يشكل من تعهّدات خلالها يظنها الأشد جذباً للأميركيّين.
– في خطابه المتباهي بالإنجازات الاقتصادية، ووضوحه في مضمونه الطبقيّ والعنصريّ، خصوصاً في سياسة التأمينات الصحية، بدا الرئيس ترامب في السياسة الخارجية واثقاً من أن الأولوية لدى الأميركيّين هي الانسحاب من الشرق الأوسط، فوعدهم بتحقيقها، من دون الدخول في مساجلة حول كيفية إدارة الوجود الأميركيّ في ظل التصعيد الذي أعقب اغتياله للقائدين قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس، متجاهلاً دعوات محور المقاومة وعلى رأسه إيران لخروج القوات الأميركية من المنطقة، فتحدّث عن نياته بالانسحاب، باعتبار الخطر على الأمن القوميّ قد انتهى بالقضاء على داعش واغتيال سليماني، وبدا مهتماً بالوضع في أميركا الجنوبية فاستحضر خوان غوايدو قائد الانقلاب المدعوم أميركياً في فنزويلا كضيف شرف على الحضور، وخصّص لدعوات تحطيم قبضة الرئيس الفنزويليّ نيكولاس مادورو حيزاً أكبر من الحيّز الذي تحدّث خلاله عن إيران وملفها النووي وصفقة القرن والشرق الأوسط كله بمرّات.
– الخطاب الأقرب لوعود الترشيح للولاية الأولى، تحت شعار أميركا أولاً، ولسنا شرطيّ العالم، والتركيز على الشأن الاقتصادي، يضع فرضية التحضير للانسحاب تحت الشعارات التي أطلقها ترامب، والتي تختصر بمعادلة أن المهمة قد نفّذت وآن أوان عودة الجنود إلى الديار، لم يشكل حدثاً في طهران، ليس لأن الانتخابات البرلمانية وإحياء ذكرى انتصار الثورة يستحوذان على الاهتمام وحسب، بل لما قاله مسؤول إيرانيّ بأن طريقة اشتغال العقل الإيرانيّ لها خصوصيّة يجب فهمها؛ ففي إيران التي تستلهم ثقافتها الجمعية وأساليب سياساتها من تقاليد صناعة السجاد وحياكته القائمة على الصبر وإدارة الوقت والإتقان للتفاصيل، مصادر ثقافية إضافية مشابهة في صناعة تقاليد تجد صداها في السياسة. ويقول المسؤول الذي ذكر ما سبق وكتبتُه تحت عنوان حائك السجاد ولاعب البورصة، أن الإيرانيين كانوا أول مَن قام بمدّ قنوات جرّ المياه منذ قرابة ثلاثة آلاف عام، وهناك من هذه القنوات مئات الكيلومترات التي لا تزال عاملة حتى اليوم، ففي خراسان مثلاً توجد قناة داريش وطولها سبعون كليومتراً هي الأقدم في التاريخ، وعمرها 2700 عام، وقناة قصبة في خراسان أيضاً تستجرّ مياه عشرات الينابيع والآبار إلى عشرات البلدات والقرى ولا تزال تعمل لليوم. وفلسفة القنوات الإيرانية هي تحويل مصادر النزاع إلى مصادر للسلام. والمياه والوصول للينابيع والسيطرة عليها شكّلا سبباً للكثير من الغزوات والحروب بين القبائل في التاريخ القديم، وقيمتها أنها تقوم على عمل شاقّ ومستديم طويل المدى، لكنه يشكل حلاً جذرياً لمرة واحدة، لا يستدعي العمل اليوميّ المتعب والمتكرّر، وقوتها في أنها ترتكز على الإنصاف في توزيع العائدات. ويُضيف المسؤول الإيرانيّ، منذ أن تتّخذ القرار بمدّ شبكة قنواتك لا تلتفت إلى الوراء حتى تنتهي منها. وهذا هو حال إيران بعد قرار إخراج الأميركيين من المنطقة، وعليهم وعلى مَن يعتمد عليهم متوهماً الحماية أن يقرأوا معنى القرار الإيراني. فالخروج السياسي يوفر كثيراً على الأميركيين وعلى المنطقة، والتفاهمات السياسية بين دول المنطقة تحقق للجميع ما يريدون من أمن واستقرار بعيداً عن الأمن المستعار. قنوات إيران الأمنية التي تمدّها للمنطقة تشبه قنواتها المائية، هي عرض للجميع لحلّ منصف طويل المدى، لكن المشروع مستمرّ ولن يتوقف والبحث في السيناريوات والفرضيات يجب أن يُشغل بال الآخرين.