أولى

صفقة القرن:
تشاؤم بالسياسة تفاؤل بالمستقبل

 سعاده مصطفى ارشيد _

 

 

اثر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن صفقته (صفقة القرن) طلب مني أحد الأصدقاء كتابه هذا المقال، لكنني تريّثت قليلاً وذلك عندما قرأت ما ورد من مقالات وتحليلات في معظم المنابر الإعلامية والتي تراوحت ما بين الخطاب المتحدّي عالي النبرة وبين الإحباط والشعور بالهزيمة، أما الآن وقد ذهبت السكرة وأتت الفكرة كما تقول الأمثال فنحن بحاجة إلى قراءة سياسية جريئة للأحداث تتجاوز الانفعال والتحدّي كما الإحباط.

اختلفت صفقة ترامب عما عداها من مشاريع لتصفية المسألة الفلسطينية إذ جرت العادة أن يتمّ طرح مشروع أو مبادرة أولاً ومن ثم تتمّ مناقشة ما طرح عبر لقاءات بين أطراف متعددة تليها مؤتمرات وورشات عمل ولجان تفاوض ورحلات مكوكية، ولكن صفقة ترامب قلبت الأمور وأوقفتها على رأسها لا على قدميها إذ بدأت بتنفيذ معظم عناصرها أمام ناظرينا جميعا وقبل إعلانها.

سبق للمفاوض الفلسطيني في أوسلو عام 1993 أن وافق على تأجيل التفاوض حول مجموعة من المسائل بالغة الأهمية والخطورة وهي اللاجئين والقدس والمستوطنات والحدود والمياه باعتبارها

 

من قضايا الحلّ النهائي والتي سيتمّ التفاوض بشأنها مع انتهاء المرحلة الانتقالية أيّ في عام 1998 وهو الأمر الذي لم يحصل ولم يكن له أن يحصل، فـالإسرائيليأخذ بفرض وقائع ميدانية على الأرض تجعل من هذه القضايا بالغة التعقيد، وها نحن الآن نرى كيف استبدل التفاوض بشأنها بحسمها لغير صالحنا في صفقه ترامب.

كانت السلطة قد تفاوضت مع حكومة حزب العمل في عام 1995 وقد تمّ الإعلان عن نتائج تلك المفاوضات في ما عُرف لاحقاً باتفاقية أبو مازنيوسي بيلين، وقد منحت تلك الاتفاقية دولة الاحتلال القدس مقابل ان تكون العاصمة الفلسطينية في ابو ديس حيث بوشر فور الإعلان عن الوثيقة بأعمال بناء مقار للرئاسة والحكومة والمجلس التشريعي وتنصّ الوثيقة في ما تنص على ضمّ المستوطنات لدولة الاحتلال والعمل على إنهاء وكالة غوث وتشغيل اللاجئين والعمل على توطينهم في بلاد اللجوء وكما تنص على إقامة دولة فلسطينية بلا جيش وبلا سيادة على ما يتبقى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن هزيمة حزب العمل في انتخابات الكنيست التي تلت الاتفاقية أخرجت موقعيها من الحكم.

منذ ان بدأ الحديث عن صفقه ترامب لإنهاء هذا الصراع طويل الأمد اعترفت الإدارة الأميركية بضمّ الجولان السوري ليصبح جزءاً من أرض (إسرائيل)، كما قامت بالاعتراف بضمّ القدس باعتبارها ليست أرضاً محتلة وإنما أرضاً (إسرائيلية) محررة وعاصمة لدولة الاحتلال ونقلت سفارتها من تل ابييب إليها، ثم صنّفت منظمة التحرير (الشريك في اتفاق اوسلو الذي وقع برعاية أميركية وفي حديقة البيت الأبيض) باعتبارها منظمة إرهابية وقامت بإغلاق مكتبها (سفارتها) في واشنطن، وشرعنت الاستيطان في أراضي الضفة الغربية المحتلة مخالفة بذلك القانون الدولي، وتقوم الآن بحصار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين تمهيداً لإلغائها وشطبها باعتبارها الشاهد الملك على وجود اللاجئ الفلسطيني اضافة إلى إجراءات سياسية ومالية لا حصر لها.

ما يثير الدهشة، هو دهشة السياسي الفلسطيني سواء من كان في فريق السلطة وحزبها الحاكم أم من باقي فصائل العمل الفلسطيني، وكأنّ ذلك الإعلان قد أخذهم على حين غرة، علماً أنّ معظم بنود الصفقة كانت قد تسرّبت للإعلام على مدار أكثر من العام، ثم أنها نفذت على أرض الواقع أمام ناظريهم، فهذا المسار المتدحرج والذي بدأ في عام 1974 من خلال ما أطلق عليه البرنامج المرحلي أو برنامج النقاط العشر وما تبعه بعد عقدين من الزمن عند توقيع اتفاق أوسلو بين حكومة الاحتلال وقيادة منظمة التحرير، ثم ما أعقبه من أداء بائس للسلطة الفلسطينية لم يكن له أن يفضي إلا إلى مثل هذه الصفقة.

يتساءل الفلسطيني والمتابع للشأن الفلسطيني اليوم ماذا يمكن لقيادة المنظمة أو رئاسة السلطة أو ما تبقى من فصائل عمل فلسطيني أن يفعلوا أمام هذا الواقع؟ والجواب هو في العود على بدءفهذه السلطة أقيمت بموجب اتفاق اوسلو والذي كان يستبطن في جوفه كلّ ما ورد في صفقه ترامب، فوظيفة السلطة الفلسطينية كما ورد في متن الاتفاق هي إدارة السكان والحفاظ على الأمن (بالطبع أمن الطرف الشريك في الاتفاق) وجزء من الحفاظ على الأمن ما أصبح يعرف اليوم بالتنسيق الأمني، وقد تمّ تطوير هذه الوظيفة في مرحلة ما بعد عرفات على يد أدوات البنك الدولي من الفلسطينيين وبرعاية وإشراف الجنرال الأميركي دايتون وممثل الرباعية طوني بلير حيث تمّ العمل بشكل ممنهج على صناعة ما أسموه الفلسطيني الجديد وهو الفلسطيني الذي لا يريد أكثر من العيش بخنوع لاهثاً وراء مرتبه وساعياً لتسديد قروضه البنكية، وهو أيضاً الفلسطيني الذي ينظر إلى أعمال المقاومة باعتبارها إرهاباً يلحق به الضرر أكثر مما يلحق بالاحتلال، كما عملت هذه المجموعة على إعادة صياغة العقيدة الأمنية للأجهزه العسكرية والشرطة الفلسطينية بحث تنسجم مع ما تقدّم (وللاستزادة يمكن مراجعة محاضره الجنرال دايتون في معهد واشنطن للأمن القومي 2009).

انّ عدم جدية القيادة الفلسطينية والتي ظهرت قبل الإعلان عن الصفقة كما بعد الإعلان عنها يشير إلى أنّ القبول الرسمي بها ليس إلا مسألة وقت وما يجري الآن هو رفضها قولاً وتمريراً فعلاً، والحديث عن قطع الاتصال مع الإدارة الأميركية اعقبه الحوار مع مديرة وكالة المخابرات المركزية التي زارت رام الله عقب الإعلان عن الصفقة وما قيل عن رفض الحديث الهاتفي مع ترامب.

ماذا فعلت القيادات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية على حدّ سواء للتعامل مع لحظه الحقيقة وهي التي كانت تعرفها وتنتظرها؟ هل أعدّت الخطط  أ، ب، ج؟ وهل قامت بتعزيز مناعة الشعب الفلسطيني وحشد إمكانياته وإطلاق طاقاته، هل تعاملت بشكل جدي مع ملف الانقسام؟ إنّ ما جرى ويجري ليؤكد أنّ التصريحات المتحدية التي أطلقت في الأيام الأولى للإعلان الأميركي لن تصمد أمام الحقيقة والواقع، فالتنسيق الأمني لا زال مستمراً وفي أعلى مستوياته وسفر الوفد الذاهب إلى غزة لبحث موضوع إنهاء الانقسام قد تأجّل سفره وذلك كمقدمه لإلغائه، ولا يبدو انّ السلطة في صدد تفعيل جدي لملفات التصدي للاستيطان او لتهويد القدس، الأمر الذي يدلّ على انّ السلطة ليست في وارد تغيير أدائها او عقليتها.

لقد علمتنا تجارب التاريخ أننا مهما بلغ بنا الضعف والهوان فإننا قادرون على النهوض من جديد وتمزيق هذه الاتفاقية ومفاعيلها وما سبقها من صفقات واتفاقيات منذ سايكس بيكو وبلفور ومروراً بهزائم انظمة الارتجال السياسي في 1948 و1967 وانتهاء بصفقه ترامب هذه، فالشعب الفلسطيني سينتج فلسطينياً جديداً مختلفاً عن فلسطيني الجنرال دايتون قادر على المقاومة واسترداد الحق وفي هذا المقام أردّد مقوله الفيلسوف الألماني العظيم هيغل: “أنا متشائم بالسياسة ولكن متفائل بالمستقبل”.

*سياسي فلسطيني مقيم في الضفة الغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى