أولى

ما بعد حلب: قواعد اشتباك جديدة ومسرح عمليّات مختلف

 العميد د. أمين محمد حطيط _

بعد أن فاز أردوغان بـورقة يانصيبتمثلت باتفاق سوتشي حول إدلب السورية، استعملها بذهنية أنها تشرّع له السيطرة على منطقة تتجاوز مع منطقة عفرين التي كان قد احتلها ومع منطقة شمالي حلب غربي الفرات، مساحة الـ 14 الف كلم2 من مساحة سورية البالغة 185 الف كلم2، وإذا ضمّت إليها ما احتله في الأشهر الأخيرة من العام المنصرم وأسماهمنطقة آمنةلامست الـ 4500 كلم2، إذا جُمع كلّ ذلك يكون أردوغان عبر الاحتيال والإرهاب والعدوان امتلك السيطرة على 1/10 من سورية ما يتيح له ادّعاء الفوز بتعويض كافٍ له للقول بأنه انتصر في سورية وامتلك مفتاحاً فاعلاً للتدخل في شؤونها عوّض له شيئاً من خسارته لمشاريعه الأولى الرامية الى السيطرة على 6 دول عربية عبر الاخوان المسلمين او السيطرة على سورية وبعض العراق.

أقنع أردوغان نفسه بأن بوتين سيكون مطواعاً لرغباته مستجيباً لطلباته، لأنه ظنّ بأنّ الروسي بحاجة إليه لكونه عضواً في الحلف الأطلسي ويحكم دولة ذات موقع استراتيجي مميّز بشكل عام وذات خصوصية مفرطة بالنسبة لروسيا، كما أنّ تركيا تملك من الإمكانات والقدرات ما يجعلها قادرة على التأثير في اقتصاديات دول الجوار اللصيق والبعيد، وروسيا منها، ثم جاء التساهل الروسي مع عدوانيّات أردوغان ليعزّز اعتقاد الأخير.

أما سورية التي قبلت باتفاق سوتشي وفقاً لفهم ساعدها الروسي على تظهيره، فإنها تعاملت معه على أساس أنه جسر لتحرير إدلب على مراحل قد تتطلّب وقتاً طويلاً نسبياً لكنه مسار تحرير محدود الكلفة مضمون النتائج، كما وعد الروسي، ومع هذا ولأنّ المؤمن لا يُلدغ من الجحر مرتين ولأنّ سورية لدغت من الجحر التركي وذاقت منها الأمرّين من خلال غدره وانقلابه على اتفاقات سابقة، فإنها تعاطت مع الأمر وفقاً لعنوانين سياسي وعسكري: الأول ثقة بالتعهّد الروسي، ولذلك أوقفت العمل العسكري الذي كانت تستعدّ له في أيلول 2018 والثاني بالمحافظة على الجهوزية لإطلاق هذا العمل عندما تتهيّأ ظروفه الميدانية والسياسية والاستراتيجية بعد تعثر الأول واعتمدت له استراتيجية الوثبات المدروسة والتحرير بالقضم المتتابع.

لقد رفعت تركيا لوحة تفاهم سوتشي كشعار، ولكنها عملت بمقتضيات مشروعها الخاص حصرياً، ولم تنفذ من اتفاق سوتشي حرفاً واحداً لمصلحة سورية، لكن سورية التي كما قلنا لم تثق لحظة بأردوغان، كانت تستغلّ كلّ عدوان إرهابي تدعمه تركيا، او كلّ خرق مباشر لتفاهم سوتشي ومناطق خفض التصعيد وتنفذ ردة فعل عليه تتمثل بوثبة تحرير مدروسة، وبهذا نفّذت وثبات مورك ثم خان شيخون ثم معرة النعمان ثم سراقب. وكانت مع كلّ وثبة تُحدث تغييراً ميدانياً له أحياناً أبعاد استراتيجية وتأثيرات سياسية، لكن الأخطر والأهمّ والأعمق تغييراً كان في ما أحدثته العمليات الأخيرة التي صحّت تسميتها بـعملية الأمن لحلب وطرقهافما هي نتائج هذه العمليات وما هي مفاعيلها؟

لقد حققت عمليةالأمن لحلب وطرقهاوالتي نفّذت رداً على جرائم الإرهابيين ومحاولتهم اقتحام مواقع سورية محررة في غربي حلب وريفها وريف إدلب، إنجازات عسكرية هامة في طليعتها تحرير ما كان تبقى بيد الإرهابيين من أحياء حلب الغربية وأكمل بذلك تحرير حلب التي أنجز معظمه في العام 2016، ثم وسعت نطاق الأمن المباشر لحلب بشعاع يتراوح بين 12 و15 كلم، أيّ إبعاد صواريخ الإرهابيين عن المدينة وتأمينها أمنياً بالكامل، ولا تقلّ أهمية ما تحقق على صعيد المواصلات من والى حلب حيث تمّ فتح المطار الدولي وفتح طريق حلب دمشق الدولي السريع بعد 9 سنوات إقفال. وبهذه الإنجازات تكون قد حرّرت وطهّرت من الإرهاب مساحة 3000 كلم2.

لقد أذهلت نتائجعملية الأمن لحلبواستئناف العمل وتشغيل المواصلات الجوية والبرية اليها، أميركا التي فهمت المعنى الحقيقي للإنجاز المتحقق بربط عاصمة سورية الاقتصادية (حلب) بالعاصمة السياسية ( دمشق) وتفعيل شرايين الاتصال والانتقال بين أهمّ مراكز الثقل النوعي الاستراتيجي السوري، فالذي يفهم المدلول ويحلّل الصورة يعلم انّ سورية بهذا العمل تدفن نهائياً مشاريع العدوان التي استهدفتها، وتجمع أوراق المناورة في مواجهة الحرب الاقتصادية التي تشنّ عليها، أما أردوغان الذي اختلّ توازنه لا بل دخل متخبّطاً في حالة انعدام الوزن والهذيان راح يطلق التهديدات التي يعلم هو قبل غيره أنه ليس قادراً على تنفيذها، ولكنه أصرّ على ممارسة العمل باستراتيجية الضفادع والتهويل عبر إدخال 10.000 عسكري من الجيش التركي وإنذار سورية بوجوب العودة الى خطوط ما قبل العملية، فجاءت مواقف الرئيس الأسد الهادئة لفظاً والمدوّية مضموناً لتوجّه إليه صفعة قوية خاصة عندما تعهّد الرئيس بمواصلة العمليات لسحق الإرهاب وتحرير الأرض دونما مبالاة بالفقاعات الصوتية الآتية من الشمال (ويقصد مواقف أردوغان تلك) واتبعتها قيادة الجيش ببيان إغلاق الأجواء السورية ضدّ أيّ طيران معادٍ.

لقد رسمت عمليةالأمن لحلب وطرقهامسرحاً ميدانياً فرض فيه الجيش السوري وحلفاؤه قواعد عمل واشتباك جديدة، رافقتها سلوكيات أطلسية لا يمكن تجاوزها، حيث انّ أردوغان وبعد ان لمس فشل ما لجأ اليه من تهويل تركي ضدّ سورية لجأ الى الأطلسي وهدّد به ـ وهنا كان الردّ الصادم لأردوغان حيث لم يستجب هذا الحلف لشيء من طلبات حاكم تركيا لا بل وجه اليه صفعة مؤلمة عندما استبعده عن مناورات آذار المقبل التي سيشارك فيها 41 ألف عسكري أطلسي ليس فيهم تركي واحد.

أما أميركا التي كانت ولا زالت تستعمل أردوغان أداة مشاغلة ليطيل أمد الصراع في سورية ويؤخر استحقاق تحرير شرقي الفرات من الـ 800 عسكري أميركي المعلن عن وجودهم هناك، فإنها اكتفت بتصريح وقح تستنكر فيه قيام سورية بفتح وتشغيل مطار حلب وطريق حلب السريع الـ M5.

هذه السلوكيات أكدت بأنّ حلفاء أردوغان المفترضين تركوه يتخبّط ولن يغيّر هذا الاستنتاج ما يُقال عن لقاء تركي فرنسي ألماني روسي للبحث في مسألة إدلب، التي بات أردوغان مستميتاً لتجميد الوضع فيها على ما هو عليه الآن خاصة أنه يخشى من استئناف العمليات السورية لتحرير تلك المدينة التي لا تبعد عن المواقع الأمامية للجيش العربي السوري الآن أكثر من 14 كلم.

وأخيراًمع استبعادنا أيّ مواجهة عسكرية روسيةتركية، أو مواجهة سوريةأطلسية، والاعتقاد بأنّ المواجهة السوريةالتركية تبقى منخفضة الاحتمال جداً لن تقع إلا إذا ارتكب أردوغان فعلاً جنونياً كاملاً، فإننا نرى انّ الميدان السوري بات محكوماً بقواعد عمل واشتباك جديدة تؤلم تركيا كالتالي:

1 ـ جهوزية الجيش السوري وحلفائه لمعالجة أيّ عائق يعترض تنفيذ مهماته حتى ولو كان هذا العائق جيشاً تركياً، وعلى أردوغان أن يستوعب جيداً ما جرى لجنوده الذين قتلوا بنار سورية عندما حاول الإرهابيون الاحتماء بهم، أو ما حصل لقواعده النارية التي قدّمت الدعم للإرهابيين في هجومهم على النيرب، وأخيراً البيان الصريح الذي أعلنت فيه القيادة السورية أنها تغلق أجواءها بوجه كلّ عدو وأنها ستستعمل كلّ الوسائل المتاحة من أجل ذلك (وطبعاً يدخل ضمنها صواريخأس300” التي بات أمر تشغيلها بيد سورية).

2 ـ إنّ روسيا ليست بصدد إعطاء مهل إضافية لتركيا وإنها ملتزمة بدعم الجيش العربي السوري في مهماته لتحرير إدلب، ولن يكون أمام أردوغان فرص جديدة او مناورة احتيال أخرى. فروسيا نفد صبرها وهي تقرّ مطلقاً بحق الجيش السوري في تنفيذ تلك المهمات وله أن يتابع وفقاً لما يراه وعلى الآخرين احترام وحدة الأرض والسيادة السورية.

3 ـ عدم واقعية او جدية او جهوزية الحلف الأطلسي لدعم تركيا في مشروعها الخاص في إدلب وجلّ ما يمكن تقديمه هو دعم لفظي لا أكثر. وقد طويت صفحة مسرحيات الكيماوي التي كان الأطلسي يلعبها لتبرير التدخل العدواني المباشر ضدّ الجيش العربي السوري.

4 ـ انكشاف محدودية قوة تركيا في مساندة الإرهابيين واستعمالهم خدمة لمشروعها الخاص الذي بات نجاحه شبه مستحيل، وستكون لهذا الانكشاف ارتدادات خطيرة على معنويات الإرهابيّين الذين كانوا يتصرّفون بطمأنينة مطلقة الى قوة تركيا الداعمة لهم ولمسوا الآن، بل تأكدوا انّ الجيش السوري لا يعبأ ولا يهتمّ بما تدّعيه تركيا من هيبة عسكرية او ما تضعه من خطوط حمر، وكانت عملية النيرب التي سحقهم فيها الجيش العربي السوري نموذجاً.

*أستاذ جامعي وخبير استراتيجي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى