أخيرة

أوغاريت الأبجديّة الأولى..حبٌ وسلام

 آمنة بدر الدين الحلبي

كلما وصل القمر إلى كبد السماء كي ينشر نوره على العالم، همس في أذن أوغاريت عليك أن تصنعي السلام وتسجّليه في أبجديتك المعهودة وتقدّميه لكل نساء العالم، طالما قدمت أولى الأبجديات وأثمنها من القرون التي سبقت الميلاد.

لكن أوغاريت كانت ترنو بعينِ العشق للقاءٍ محمومٍ بِقُبَل الليل، كي تعزفَ إحدى مقطوعاتها الموسيقية الداعية للحبِّ والسلام، والتي ظهرت منذ قديم الأزل وتعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد.

أوغاريت الحالمة بالسلام، من جنبات اشتعالها يُورِقُ الحنين، وقد لاح طيْفها في قصر الحياة حين كان الليل متعثِّرًا متثاقلا في مشيته، شامخةٌ كشجرِ السرو، يفوحُ من منديلها عطره الزيتي والذي يُطلق عليه «الباينين» ونقشت بأزهاره على ثوبها حروف الأبجدية. انتصبت أمام ناظريَّ وأومأت بالسلام، رغم مساءاتها تضجّ بحزنٍ مرسوم على مرايا الروح.

قلت: أوغاريت صاحبةُ الأبجديّة الأولى تتدثَّر بكل أغصان وأوراق شجر السرو صاحبة اللهجات الجميلة واللغات الرائعة والمتنوّعة والمعزوفات التي يُطرَب لها القلب.

قالت: ناداني أوغاريت في تلك الليلة بعد أن قدّم لي عطر خشبها، وزيتها الجميل، وعصبَ شعري بأوراقها المنقوشة بالأبجدية الأولى، ودثرني بأزهارها المتماسكة حين كان شموخ السرو يتلمّسُ أوراق السلام على شواطئ الحنين.

قلت: عطرُ زيتها يخترق الذاكرة فتجمحْ.

قالت: يُدرك مقدار الجموح بذاكرة هائجة لا تنطفئ إلاّ بعالم الحضور.

قلت: هو حضورٌ للغياب.

قالت: زائرة الليل تغوصُ في عبارات صوفيّة.

قلت: تلحُّ علي الأسئلة، وتداعبني المساءلة.

صمتت طويلا وكأنها دخلت في غياب الحزن لاستذكار روحه.

كنت أحترم هذا الصمت إلى أن تفيق وتدلي بمخزون روحها، علها تبصر ما يصبو إليه حبيبها.

نظرت إليّ نظرة بالغة الأهمية.

قالت: كان يستفزني في الحل والترحال، ويرخي بظلال أسئلته حين أنتصب ممشوقة القامة أمامه.

قال: ما الذي أتى بغيمةِ روحك في هذا الليل؟

قلت: هو الله، وما الذي أتى بكَ أنت؟

قال: ترحال في الأنا إلى الأنا الساكنة في الأعالي.

قلت: لِمَ هذا الترحال!!!

قالت: طُموحُه، وبحثُه عن الحقيقة أكبر من هواجسي.

قلت: يبدو الأمر دخل في رحلةٍ سرمدية.

قالت: سافر على متنِ الريح، واتكأ على زندِ الليل يجوبُ العالم يبحثُ عن الخلود، وأنا أبحثُ عن السلام لمملكتي.

صمتتْ، وانسدلت حباتُ اللؤلؤِ من عينيها، تُسطِّرُ ملاحمَ عشقٍ، وكأنها تمرّ على محراب الصوفيّة.

في تلك اللحظة، قطعتُ صمتَها الحزين، وغيابَها عن الواقع للحظات في النُّسكِ، واسترسلتُ في حديث العشق الصوفي.

قلت: حروفكِ أوقدت ألف سراجٍ وسراج يا أوغاريت.

قالت: على أديم القلب نقشتُ اسم وطني، وعلى روحه نقشَ الخلود للحب.

قلت: كأنني أمام ملحمة سومريّة.

قالت: هو قريب ببعده، وبعيدٌ بقربه، وكل معتقد يصوره حسب استعداده من الألق الروحي، لكن أكبر هواجسي أرى السلام محلِّقا في مملكتي، لأغدو عاشقة من زمنِ الحلم لرجلِ الحلم.

قال: سأعاقرُ حبكِ بعد أن أحصلَ على الخلودِ يا أوغاريت، وأسرحُ في فضاءات الله والسكينة، أقيم صلاتي في الحضرة المسائية مع السالكين وأهل الطريق، أصلي الشفعَ ركعتين، وأترك لك الوتر.

قالت: أنا أبحث عن الخلود والسلام للوطن الذي يسكنني بالوجع، ويضنيني الشوق لأركانه، حتى أقيم صلاة ليلي بسلام.

قال: أعي تماماً نَزْقكِ، وأطوارَ مملكتكِ، وأنوثتكِ الرافدة للحياة، وأبجديّتكِ التي منحت العالم ثقافةً وإبداعًا، وسمفونياتك التي دارتْ أقاصي العالم منذ بزغ النور، وأنت الروح ولا بعدك روح، لكن!!!

قالت: إن كان حبي لك خطيئة، فأقم عليَ الحد، ليسيل ياسمين روحي، ونبيذ شفتي قداحْ.

قال: على بيادر الخلود سيكون الصّخب الجميل بالحضرة المسائية، والسكينة لروحكِ، فاقبليني شوقاً هاجعاً في أعماق الكيان، واسمعي همسًا من حنان.

قالت: إن كنتَ تبحث عن الخلود لوطن كان ومازال منذ الكهف الحجري الأول الملحمة الكبرى على مرّ التاريخ، والحضارة المزروعة ستظل إلى قيام الساعة، لِمَ هذا الغياب؟

قال: تعاليْ نبحث عن الخلود معاً في سكينة الليل والله يحرسنا.

قالت: أنا سارحة في فضاءاتٍ رحبة معه.

قال: التقينا مع الله لأجل الوطن.

قالت: أوغاريت أنا، عمري قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام بعقودٍ ونيّف، مملكتي حسناءُ جميلة، واسعةُ القلب، كبيرةٌ في العطاء، على صدرها سمفونية حبٍ، وفي قلبها حضارات العالم من سنين خلت.

قال: تتكلمين عن حضارة عاشت فيها أرواحٌ لها فلسفة خاصة، لكن هناك ضبابٌ شفيف يمخرُ عباب البحر سينجلي قريباً.

قالت: أوغاريت أنا، أبجديتي هي أكمل أبجديات العالم القديم وأغناها وأكثرها شمولاً، تحتوي على ثلاثين حرفاً، وبسبب تقدّمي وازدهاري أصبحت أبجديتي من الأبجديات قديماً وحديثاً.

كان قلبها يرن ألمًا، وعينها تعزف سمفونية أوغاريت حين دقّ قلبها حنين.

لكنني أفقتها بترانيم صوفية لأعيدها الى حديث الروح.

قلت: لكنه يحبك ويتمنى لقاءك ملكةً متوّجةً من أبجديةٍ لن تشيخَ مطلقًا حاملة في روحها سمفونية البقاء لأنه عاشق للموسيقى.

قالت: أجل سمفونية أوغاريت لن تشيخ أبدًا يا زائرة الليل بعدما فكوا الشيفرة في خمسينيات القرن الماضي.

قلت: هل سمع تراتيل نوتتها ورموزها.

قال: ربما سمفونية نينوى هي الأقدم.

قالت: أنا الاقدم، أنا أول نوتة موسيقية في العالم، ترقيم رموزي تدل على قِدَمي.

قال: ربما وُضعتِ عند خروج الملك الى الحرب، لتدل على انتصاراته وبحثه عن الخلود.

قالت: وُضعت لحرائر أوغاريت، في ترميزها الجمال، وفي ترتيلها حب وسلام، مزروع على مرّ العصور بسبعة مقامات.

قال: هاتي برهانك يا أوغاريت

قالت: نيكال زوجة إله القمر صمتتْ حتى شقّ الصمت روحها، كي تنجب ابن السلام بسمفونية إلهية ما زالت مزروعة على حجرِ أوغاريت.

قال: أوغاريت، اعزفي لي سمفونيّة عشق واكتبي عليها اسمي، واجعلي روحي تحلِّق مع رياح البَليل فوق الأرض العطشى للسلام.

قالت: وإن رفضتَ سماعها، وغيرتَ بوْصلة روحكَ، لأن الروح لا يدرك سرها إلا الله.

قال: بين شفتيك يولد ألف إلهٍ يعشقْ.

قالت: على شفتي تعزفُ الروح سرًا إلهيًا.

قال: سمفونيّة حب خالدة يا أوغاريت، وجودك في حياتي كأنني في بحرٍ زاخرٍ من الوجود.

قالت: كل يوم أنت في شأن، ولن تهدأ للسلام، تبحثُ عن الخلود دون أن تدرك أنَّ السلام يمنَحُنا الخلود.

قال: أنتِ اكتمال الروح، والمعنى على صدى الشوقِ، وألقُ روحكِ يعجُّ بالنقاء.

قالت: سأعزفُ الآن للسلام يرتِّلُ أرجاء أوغاريت، ويزيد، حتى يعود الدوري، ويزهرَ الياسمين، وتشرقَ شمسُ الحبِّ والمحبة والسلام.

قال: تعاليْ لنعزفَ معًا سمفونية حب، ونشربُ كؤوسَ السلامِ والانتصار.

قالت: امتدّ لسان الصباح وصمتتْ شهرزاد عن الكلام المباح بعد جدلٍ بيزنطي انتهى لصالح شهرزاد، وطبعاً لصالح حرائر أوغاريت.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى