ثقافة وفنون

فقط في شرق المتوسط.. (1)

 

} مصطفى بدوي*

ليس بالتكتلات يحيا الشعر ولا بالمنصات..

ليس بالتدافع حول ضلالات النشر ولا ملاحق القرف..

ليس بالاستعارات ولا بالاستمارات..

ليس بالتأنق والملاسنات.. ليس بالتطريب ولا الغنائيات.. ليس بالتجنيح ولا بالعتمات.. ليس بالأطاريح ولا المماحكات.. ليس بالمهرجانات ولا بالدعايات.

ليس بالمجاملات ولا بالادعاءات..

ليس بالمكائد والمقالب ورماح الطوائف والعشائريات..

ليس بالاجترار ولا بالوثوقيات..

ليس بالدجل المجلجل في المدرّجات..

الشعر باختصار:

ديك يطلّ على خصام الجارات

هاتف فزع في الهزيع الأخير يرنّ على غير انتظار..

نجمة ساقطة من ليالي الضجر..

سنونوة تغتدي والناس في وكناتها..

دهشة تحبو وتحبو في الفراغ الفسيح..

دمعة في الجبال لعلعت من عيني امرأة أمازيغية تركت أولادها في الفراش واتجهت متبرّمة نحو لقمة مرة في الحقول..

ذاك هو الصهيل.. وتلك هي القصيدة!

***

فقط في شرق المتوسط

شعب يفتش باكراً عن غصّة مطروحة في الطريق..

شعب يتمتم في المشافي والذهول

شعب يراوغ وقته بالمقاهي وخيول الرهان حالماً بخزائن في الخيال المشقق بالغبار..

شعب مَن قارب الأوديسة المثقوب يرفل في متحف مشرّع للغرق..

شعب تسيج أحلامه الأمواج..

والهذيان المرتق بالصدأ..

شعب ينام على السيوف ويرجم الغيب بالأمنيات..

شعب يرتّل ما استطاع من الضلالة والهداية والحداثة والأصالة في الدروب..

شعب من ريش الذبول!

***

فقط في شرق المتوسط

تصحو على الصراخ، صراخ الباعة المتجوّلين وأنت تندب حظك على أنك لم تنم جيداً بسبب ديونك المتراكمة ومطالب الصغار وفواتير الدواء والكهرباء..

مدن شتى تنهض فيك ومفاصلك محتاجة إلى ترميم لا أول له ولا آخر.. تلعن اليوم الذي وعيت فيه أنك في المكان الخطأ مع الأناس الخطأ وتحيا من أجل الخطأ.. تقاوم الأعياء والقولون.. تقاوم الفضاء العبوس وتخرج منهكاً لشارع يرتديك ويجتبيك.

صور لانهيار الصور.. نساء لا يشبهن النساء.. جلبة لا طائل منها.. عفونة خرساء ومشاهد كلّها عرجاء..

تنزوي في ركن قصيّ من مقهى تافه فتسبح في خيوط الدخان:

لماذا تركت الشذى يتهاطل في الغياب الكثيف وأنت ههنا الآن وسط الركاكة ترفل في اللظى؟

لماذا كلّما طوتك السنون تماديت في يم الندم تحفر الذكرى بمعول العزلة الحارقة؟

أيها المتمترس بالجنون المنمّق باللغة:

تقدم في شهوة الأبجدية واحترق كيما تؤوب إلى نخلة في الفراغ.. تقدم لحظة كي تينع الممكنات على جبل الفجيعة.. فها أنت تُوغل في بقايا النزيف المدجّج بالسقوط وبالسقوط.. كن كما لا تشتهي ألفة هذا المكان من العدم.. كن أنت حتى يزغرد فيك الندم!

فقط في شرق المتوسط..

يكفي أن تلقي بك أمواج الحظّ إلى مصاهرة تمساح ما لتصير حاملاً شرف الانتماء وتقضي أيامك في بحبوحة العيش.. صحيح أنهم سيمسحون بك الزليج ويذيقونك شتى صنوف الإهانة حين تشتكي بنت الفشوش زيغانك، لكن إذا قيض لك وكنت ذكياً عارفاً من أين تؤكل الفاكهة فإن الدفء سرعان ما يعود الى علاقتك بهم بكبسة زر في اليوم الموالي، لأن مدلّلتهم الحوراء تراجعت عن غضبتها بعد أن أخرجت منصات صواريخك العابرة للتلال والهضاب وعرفت كيف تعلمها الطيران إلى السماء الثامنة والصهيل الأنثوي.. وقتئذ، بمقدورك أن تتصرّف كناطق رسمي لا يُجارى باسم العائلة الكريمة، لأنك أكرمت مصونتهم وصنت فجورها وكسرت تقواها و»مرمدت» غنجها بما يليق بآهاتها من قاذفات الغواية والجنون.. فكنت الفاتح المنصور والفاتك المقدام، لذا من حقك أن تعتلي المقام وتكون جديراً بالاستيلاء على ما تشتهي نفسك الإمارة بالترف وتعربد في النعيم جزاء لك بما فعلت أيّها الزعيم!

فقط في شرق المتوسط

أكاد أجزم أن البنائية ظهرت في شرق المتوسط لا في جغرافيات أخرى كما يدّعي الأطالسة الشقر. فمن عجب أن عتاة الشرق تطاولوا في البناء.. فمن الخيام إلى الغمام. هذا هو الانتقال البنائي العظيم الذي يفخرون بتحقيقه.. أو لم يصموا آذاننا في السبعينيات بالبنيوية التكوينية في محاولة جاهدة لتكوين جيل بنائي كامل؟! أو لم يطلقوا ألسنتهم الطويلة في الثمانينيات بعد أن تأكدوا من أداء الطقس المقدّس نحو مرحلة الترويج لخطاب (اللسانيات البنيوية) بمعنى إطلاق العنان للسان في المقاهي والمنصات في إطار الترويح عن الذات التي هدّها الأعياء والكدّ بعد أن اكتمل البنيان!؟

قد أجزم أيضاً أن أهالينا في شرق المتوسط كانوا سبّاقين إلى التداولية أيضاً لأنهم تداولوا النميمة والوشاية والسفاسف والهراء. ولهم فيها شأن عظيم لا عهد للإفرنج به ولا قياصرة الروم من معاصرينا ومجايلينا، فقد تداولوا أمور الدنيا والدين.. كيف لا وهم من سلالة علماء الكلام وهو باب طويل عريض لهم فيه صولات وجولات منها ما ظهر ومنها ما استتر. طبعاً، في كل النوازل يفهمون وفي كل الخطوب يفتون وفي كل الصناعات ينتجون.

لا أخفيكم سرّاً أني أتفق مع المارد الأشقر الذي يمنعهم من امتلاك الصناعات النووية لأنهم مجانين سمر وشياطين حمر وعفاريت زرق. فقد ينقرون وهم يجهلون (فوق جهل الجاهلينا) على أي زر نوويّ ليدمّروا بيوتهم ويأتوا على الأصفر واليابس لأتفه الأسباب التي قد لا يتصورها بال. ودرءاً لكلّ ما من شأنه أن يبيدهم، وهم عتاة البشرية ونفائسها في الكرّ والفرّ، عن بكرة جسارتهم أقترح عليهم أن يعتنوا بكتاب (الصناعتين) للعسكري، ففيه علم وشعر كثير يكفيهم صناعات الدنيا وأوابدها وشواردها ويُرزقهم النعمة وكثرة النسل وقوة الفهم.. ولله في خلقه حكمة وشؤون!

 

*أستاذ جامعي وناقد وشاعر مغربي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى