مرويات قومية

الرفيقة المتميّزة حضوراً وتفانياً أمل الأشقر الهبر

 

في أوائل ستينات القرن الماضي، التقيت بها كثيراً، كما مع المتميزات: الرفيقة العملاقة رؤوفة الأشقر، والرفيقة ميشلين الأشقر، ينشطن مع الرفيقات ماري بربر جريج، عفيفة عبيد، ليلى أبو عبيد وغيرهن إلى جانب الأمناء غسان الأشقر، غسان عز الدين، هنري حاماتي ، والرفقاء جوزف رزق الله، أسعد عبيد، تيودور رعد والمواطن إلياس الهبر، يتابعون شؤون الرفقاء الأسرى والاتصالات السياسية، وقد أتيت على ذلك في سيرتي ومسيرتي وفي كثير من النبذات.

تمكّنتُ أن أزور الرفيقة أمل في المنزل الذي كان أقام فيه الأمين أسد الأشقر في منطقة رأس بيروت، ورغبت أن أزورها مرة ثانية، أو أن يقوم ، غيري بذلك، إنما لم أتمكّن وقد أتيت على ذكر أوجاعي مراراً وتكراراً.

هذه النبذة عن الرفيقة أمل، تلقي ضوءاً من كثير، فهي كانت مميّزة وعنها تحلو الكتابة، وإذا كنت أكتفي بهذا القدر، أدعو من عرفها إلى أن يغني النبذة بكتابات تستحقها.

* * *

عند رحيل الرفيقة أمل عمّمت في باب «البقاء للأمة» الكلمة التالية:

« نحن الذين عرفنا الرفيقة أمل جيداً بعد المحاولة الانقلابية، وترافقنا في سنوات التحدي، وتعرّفنا على نشاطها وجرأتها وحيويتها وشخصيتها، فاحتلّت الكثير من مساحات المحبة والاحترام والتقدير، نشعر أكثر من غيرنا بفداحة خسارتها، وبلوعة عميقة هيهات أن تزول بسرعة.

في تلك السنوات، عندما كان رفقاؤنا الذين شاركوا في الثورة الانقلابية، يتعرّضون لصنوف التعذيب والقهر، يُساقون إلى قصر الأونسكو الذي تحوّل إلى محكمة عسكرية تُصدر بحقّهم الأحكام، فينقل البعض منهم إلى الزنزاناتالقبور في سجن الرمل، والآخرون إلى سجن القبة في طرابلس، في تلك السنوات كانت الرفيقة أمل الأشقر لولباً من حركة لا تهدأ، إلى جانب رفيقات، أمهات وزوجات لرفقاء، ننحني أمام ذكراهنّ، ولهنّ نطلق هتاف الحياة.

ونحن إذ نعتذر عن ذكر الأسماء، كي لا نقع في السهو أو الخطأ، إنّما نكتفي بذكر السيدة، الرفيقة، الأم والزوجة، رؤوفة الأشقر التي لا ننسى حضورها الفذّ، ولا وقفاتها الرائعة، ولا مشاركتها في الاعتصامات وكلّ الأنشطة التي كانت تحصل.

تلك مرحلة يجب أن تؤرّخ فتبقى للأجيال، وفيها الكثير من الوفاء للرفقاء الذين شاركوا في الثورة الانقلابية، وللرفقاء الذين تولّوا المسؤوليات خارج السجن فعرّضوا أنفسهم كل يوم للاعتقال، وما يرافقه عادة من همجية اعتاد عليها أفراد المكتب الثاني، وللرفيقات، وأمهات وزوجات الرفقاء الأسرى اللواتي تحدّين بجرأة، وكانت أصواتهنّ تصل إلى سياسيين ورجال دين وإعلام، وإلى كلّ وجدان.

الرفيقة أمل الأشقر كانت، على مدى كل تلك السنوات، حالة مضيئة من الحضور والجرأة والصوت العالي.

وفاءً لها، ولكلّ من ناضل في تلك الحقبة السوداء، ندعو كلّ رفيق ورفيقة عرفوا وتعرّفوا وعايشوا، إلى أن يكتبوا.

بدورنا سنهتم، فتدوين المعلومات المفيدة لتاريخ الحزب واجب على كلّ رفيق.

إليك يا رفيقة أمل، وقد زرتك مراراً وكنت أرغب لو تمكنت من القعود إليك، مرات ومرات، أرفع اليمنى بتحية الحياة، شاهداً كم كنتِ مميزة في سنوات القهر، وكم كنت منتمية لنهضة الامة، بوجدانك وأحاسيسك وكلّ نبضة لديك، قلباً وعقلاً ووجداناً.

كنت «التوأم» في النضال والمواقف الصلبة، للرفيقة الرائعة رؤوفة الأشقر (أم غسان).

لكما تليق الزغردات وترتفع الرياحين، وتنزل الدمعاتولا ننسى. البقاء للأمة.

* * *

من الرفيق رجا الهبر هذه الكلمة عن الرفيقة امل، مع كل حبنا وتقديرنا:

« ولدت في الحقبة السوداء، حين كان الحزب مطارداً، قياداته والرفقاء في السجن.

  تبدأ ذكرياتي عن الرفيقة أمل حين كنت أرافقها لزيارة جدي الأمين أسد في سجن / مستشفى الكرنتينا.

يبقى السجن محفوراً في ذاكرتي: باب حديدي فيه طاقة صغيرة، ثمّ درج شديد الانحدار، فبهو السجن، على يساره غرفة العسكر، وعلى يمينه زنزانة جدي، في بداية ممر طويل ومظلم.

بعد الإفراج عن الأمين أسد، وكنت في الثامنة أو التاسعة، عادت حياتنا إلى طبيعتها، نسبياً.

ما أدهشني حينها هو تدفق الناس الذين زاروا منزل أبو غسان وأم غسان، في ديك المحدي، في الأيام والأسابيع والسنوات اللاحقة.

كان أجمل ما في ديك المحدي في هذا الزمن، عدد الرفقاء، من مناطق مختلفة، منها الشام، بعلبك، الهرمل، الكورة وعكار، الذين عاشوا فيها وفي القرى المجاورة لها، وطبعوها بصفات الشهامة والاستقامة واالبساطة، لعل ابرزهم الامين المميّز ببطولاته ووقفاته ديب كردية.

كنا جميعاً عائلة واحدة، ألهمنا قائد من أفضل من جسّد القيم القومية الاجتماعية وتعاليم سعاده(1).

وفي هذا الإطار، أتذكر حملة الأمين أسد خلال الانتخابات النيابية عام 1972، والموكب المهيب الذي رافقه من ديك المحدي إلى ضهور الشوير، وكنت معه في السيارة، حيث ألقى خطابه الانتخابي في قاعة سينما في وسط بلدة الزعيم. وعلى الرغم من الخسارة، دُهشت لاحقاً من قدرة الأمين أسد على الحصول على 16000 صوتاً ونيّف، بعد 9 سنوات في السجن، وبعد سنتين فقط من خروجه منه.

وهذا ما يعيدني إلى الرفيقة أمل، ذهلت خلال نشأتي بتنوّع معارفها وصداقاتها، وخلفياتهم ومهنهم، عسكريين كانوا أو سياسيين ورجال أعمال، إضافة إلى علاقاتها المتينة بالرفقاء وعائلاتهم.

شعرت بأنها تعرف الجميع. واكتشفت لاحقاً أنها فعلاً تعرف الجميع، كانوا أصدقاء أوفياء، يتمتعون بصداقتها وحضورها وذكائها الحاد وكرمها وشهامتها وصدقها وحس الفكاهة لديها.

كانت معجماً من المعلومات حول العائلات، أصولها وفصولها، ومن أيّ قرى أو بلدات أو مدن تتحدّر. تعرف مين ابن / ابنة مين، وتسلسل العائلة.

أول الدروس التي تعلّمناها منها، شقيقتي ريم وأنا، هو الإصغاء وعدم إقحام نفسنا في أحاديث الكبار، فاكتفينا بمراقبة ما يدور من حولنا. حكمة مفيدة لنا: «أذنان وفم واحد، يعني الإصغاء مرتين أكثر من الكلام».

أمّا في ما يتعلق بالعقيدة والسياسة، كانت صلابتها دون منازع، وبرأيي لم تشط ولم تهادن ولم تخطئ في موقف عقائدي أو سياسي بدفاعها عن العقيدة والمواقف السياسية الصحيحة، كانت الرفيقة أمل بمثابة كتيبة عسكرية، تشنّ هجوماً مضاداً صاعقاً، لا يرحم المرتكب.

كان معدنها فولاذياً، لم تستسغ النفاق والكذب والهبوط الأخلاقي. وبعد استقرارها في لبنان نهائياً عام 2001، شاءت الظروف أن تضطر إلى مشاهدة حفلات الجنون والعمالة، وأن تتعرض، بشكل يومي، لكميات من النفاق والكذب والهبوط الأخلاقي، صادرة عن سياسيين وكتاب وصحافيين من أسوأ الأصناف.

كانت الرفيقة أمل امرأة مميزة وجبلاً لا تهزه ريح ومدرسة للقيم. وفي سنواتها الأخيرة، مع تمكّن المرض من جسدها، بقي عقلها يلمع كحدّ السيف.

 

هوامش:

(1) لعل افضل من يكتب عن تلك المرحلة المربي الرفيق منير تبشراني(2) الذي نوجه له تحية الحياة.

1 – منير تبشراني: من «قوسايا»، شقيق الرفيق الشهيد فايز مدير «ثانوية فينيقيا»، للاطلاع على النبذة المعممة عن «ثانوية فينيقيا» ودورها التربوي والحزبي في ستينات وسبعينات القرن الماضي، مراجعة شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى