أولى

«كورونا» بين نظريّة المؤامرة ومحاولات الاستغلال لتغيير الواقع!

 سعاده مصطفى أرشيد*

قد يكون عام 2020 عاماً مفصلياً في التاريخ الواضح والجليّ للبشرية والذي يعود إلى آلاف السنين، وذلك على الصعيدين العالمي والإقليمي. ولو كان الفيلسوف الانجليزي مالثوس على قيد الحياة، لوجد في ما يجري مصداقاً لنظريته السكانية والتي طالما نالت من الشجب والاستنكار والإدانة أكثر مما لاقت من التأييد والاستحسان. لقد كان مالثوس يرى في المصائب والكوارث (مثل الزلازل والفيضانات والبراكين) والحروب والمجاعات والأمراض الوبائية، عوامل إيجابية خيّرة من شأنها إصلاح الخلل وإعادة التوازن بين الزيادة المرتفعة باضطراد لعدد السكان في عالمنا، وبين تناقص الموارد من غذاء وماء وهواء، وأنّ الإنسان غير قادر على مواكبة الزيادة في التعداد البشري بمعدل الزيادة نفسه في إنتاج الغذاء، لذلك يرى أنّ الحلّ يكون في إنقاص أعداد البشر وهذا لا يتمّ إلا في حال فعلت العوامل الإيجابيّة المذكورة فعلها.

على الصعيد العالمي تحتلّ كارثة وباء كورونا مكانة مركزية واهتماماً طغى على ما عداه، فالوباء مصدر خطر لا على دوله أو منطقة وإنما على جميع بني البشر، وقد حصد حتى تاريخ كتابة هذا المقال ما يقارب 8000 ضحية وهو مقدِم على حصد أضعاف مضاعفة من النفوس في القريب، فحسب ما قالته المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل أنّ ملايين الألمان (60-70%) سيصابون بهذا الوباء، علماً أنّ بلدهم هو من البلاد الأكثر تقدّماً في مجال الرعاية الصحية والمجتمعية عدا عن قدرة ألمانيا العالية في مجالات الطب والصناعات الدوائيّة. أما بوريس جونسون رئيس الوزراء الانجليزيّ فقد حذر مواطنيه بأنهم سيفقدون أحبّة لهم، في إشارة منه لعدد الوفيات المرتفع الذي تتوقعه الحكومة هناك، وإذا كان هذا هو الحال في ألمانيا وانجلترا فماذا يا تُرى سيكون حال الدول الأكثر فقراً والأقلّ تقدّماً في أفريقيا وأميركا اللاتينية وشرق آسيا؟ وماذا سيكون حال بلادنا طالما ذهبت تقديرات ميركل وجونسون إلى هذا الحدّ من التشاؤم والسوداوية؟

إذن ما يفعله هذا الوباء أمر كإرثي أطلق عليه البعض مفردة قديمة من مفردات اللغة العربية وهي الجائحة، وهو يذكرنا بما ذكرته كتب التاريخ عن الطواعين وخاصة طاعون منتصف القرن الرابع عشر وسمّي بالطاعون الأسود، إذ إنه في غضون سنوات قليلة اجتاح العالم القديم وفتك بربع أو ثلث سكان المعمورة وأدّى إلى تداعيات اجتماعية وسياسية واقتصادية غيّرت من شكل العالم، أو بعبارة أخرى أنهى ذلك الطاعون عالماً وأقام على أنقاضه عالماً جديداً. فهل يحدث هذا الوباء شيئاً مماثلاً أو مقارباً؟ أكثر الأنباء تفاؤلاً هي أنّ الألمان قد توصّلوا إلى تطوير لقاح مضادّ، الأمر الذي روّج له الرئيس الأميركي ترامب محاولاً تحقيق مكاسب ربحية وانتخابية، لكن أهل العلم في الولايات المتحدة وخبراء اللقاحات الأميركان يؤكدون أنّ هذا اللقاح يحتاج إلى فترة أقلها من سنة إلى سنة ونصف السنة ليصبح جاهزاً للإنتاج والتداول.

النتائج السريعة لهذا الوباء عالمياً هي ما أصابت الاقتصاديّات العالميّة من هبوط وانهيارات في تسارع خطير، ولا تقتصر هذه التداعيات على أسواق الأسهم والسندات والأوراق الماليّة فحسب، وإنما طالت وستطال مجالات أخرى مثل إنتاج النفط واستهلاكه وحركة السكان والبضائع والسياحة، إنّ ما يحدث وسيحدث لن يقتصر على الاقتصاد وسيتجاوز ثنائية الحياة والموت والصحة والمرض ليطال السياسة والحياة الاجتماعية والثقافة والفن وسائر مجالات الحياة المتقدّمة.

مع انتشار الوباء، ازدهر الحديث عن نظرية المؤامرة وهي في هذه المرّة لديها ما يدعمها وعليها ما ينقضها، فمن تورّط في نشرها لم يكن صحافيّون صغار أو صحف صفراء، وإنما دول كبرى ومسؤولون رفيعو المستوى؛ الأمر الذي ساهم في رواجها وإعطائها قدراً من المصداقية، فوفق ما تردّد على ألسنة مسؤولين صينيّين من الوزن الثقيل أنّ الولايات المتحدة هي من يقف وراء إنتاج الفيروس في مختبراتها وأنها تعمّدت نشره في مدينة ووهان الصينية في نهاية مباريات رياضية عسكرية، وأرفق المسؤول الصيني أقواله برابط عن شهادة رئيس دائرة الأوبئة في الولايات المتحدة في شهادة له أمام الكونغرس حيث يقول إنّ الفيروس موجود ومعروف لديهم منذ عام 2015، ولكن الولايات المتحدة بدورها تكذب ذلك وتردّ باتهام الصين بأنها هي مَن صنعت الفيروس، خلاصة القول وبغضّ النظر عما لنظرية المؤامرة وما عليها، لأن الوباء قد انتشر ويهدّد العالم بأسره، وهو ليس جندياً من جنود الله المخلصين فها نحن نراه يصيب التقي والشقي على حدّ سواء، كما أنه ليس جندياً في الجيش الصيني أو ضابطاً في قوات مشاة البحرية (المارينز) الأميركية، بل هو الغول المفترس الذي يملك القدرة على التهام الأرواح بنهم وشهية ومن دون أن يكترث لنوع ضحاياه أو هوياتهم القومية أو العرقية أو الدينية.

على الصعيد العالميّ والإقليميّ تشتعل حرب إنتاج النفط، ففي حين تراجع الطلب العالمي على النفط نتيجة لوباء الكورونا خاصة في الصين التي تحتلّ المركز الأول عالمياً في استيراد واستهلاك النفط؛ الأمر الذي أدّى إلى انخفاض في أسعار البترول الخام، ومع ذلك نرى أنّ السعودية قد رفعت من سقف إنتاجها غير عابئة بانهيار الأسعار التي قد تصل إلى حدود 20 دولاراً للبرميل الواحد وفق ما قالته صحيفة «وول ستريت جورنال»، فما الذي يدعو السعودية لذلك؟ وهي على المدى القصير والمتوسط والطويل الأكثر تضرّراً وخسارة من هذا الإجراء.

إذا كان وباء كورونا قد ذكّرنا بالطاعون الأسود، فإنّ الموقف السعودي ليذكّرنا بالحال الذي كان قائماً في ربيع وصيف 1990، حين انتهت حرب الثماني سنوات بين العراق وإيران، تلقّى العراق خلال سنيّ الحرب دعماً غير مسبوق مالياً على شكل هبات وقروض ميسّرة إضافة إلى الدعم السياسيّ والإعلاميّ والتكنولوجيّ من دول البترودولار، ومن الولايات المتحدة (صور الأقمار الصناعية)، اذ كان العراق يخوض هذه الحرب دفاعاً ونيابة عنهم، لكن مع نهاية الحرب التي خرج العراق منها منهكاً من جميع النواحي، فقد طالب داعميه ومحرّضيه بالاستمرار بدعمه لإصلاح ما دمّرته الحرب، لكن هؤلاء لم يقدّموا له شيئاً وإنما أخذ بعضهم يطالبه بسداد الديون. ومع ترافق المزاج الحادّ والنبرة المتعالية التي خاطب بها الرئيس العراقي داعميه السابقين مع النيات المبيّتة والفخاخ المنصوبة قضت بأن ترفع الكويت من سقف إنتاجها النفطي مما جعل الوضع المالي العراقي يتفاقم، هكذا ذهب العراق في الطريق الذي اتسم بسوء التقدير والخطأ في الحسابات فاجتاح الكويت. انهار إثر ذلك النظام العربي فيما كان الاتحاد السوفياتي في انحناءته الأخيرة قبل سقوطه وتفكّكه، وكان ما كان من تداعيات أدّت الى وجود أميركي دائم في العراق والمنطقة، وإلى مؤتمر مدريد مروراً بـ «أوسلو» وانتهاء بـ «صفقة القرن».

الخطوة السعودية في رفع سقف الإنتاج وتحطيم الأسعار هي معركة في حربها وحرب راعية ولي عهدها (الولايات المتحدة) في مواجهة إيران أولا ثم روسيا اللتين تعتمدان وإنْ بنسب متفاوتة على بيع النفط والغاز. إيران صمدت لأكثر من أربعة عقود في وجه الحصار هي التي تعتمد كثيراً على بيع النفط ومداخيله وخاصة ما تستورده الصين منها والتي تراجعت مشترياتها بشكل كبير نتيجة أزمة «كورونا»، أما القليل الذي ما زالت تبيعه فإنّ تآكل الأسعار وانخفاضها قد ترك أثراً على مداخيلها وهي التي تعاني من الحصار وضعف تجارتها الخارجية، في وقت تتزايد فيه مسؤولياتها ومصاريفها إثر سياسة التمدّد الخارجي التي كان رائدها الراحل قاسم سليماني والذي دفع حياته ثمناً لنجاحها.

هذا الوضع يكاد يماثل الوضع الذي كان قائماً عام 1990، ولكن الفارق، هو في دقة الحسابات الإيرانية وعدم هوجائيتها. فالسياسة الإيرانية دقيقة وحذرة، وكذلك روسيا الصاعدة والتي قد ثبتت أقدامها في الإقليم. إنها الحرب، ولكن لا نعرف كيف سيكون شكلها أو أين ستكون ساحاتها، في آب من العام المنصرم ضربت صواريخ يمنيّة مجمعات «أرامكو» موقعة بها أذى بالغاً، الأمر الذي أرعب وأرهق السعودية ولا يزال، فهل تلجأ إيران الى الاعتماد على ذلك الأسلوب والحرب عن طريق الأصدقاء والحلفاء، أم أنّ في بنك أهدافها وأجنداتها أشياء أخرى؟ ربما وهي التي تملك إمكانيات عسكرية وسياسية وجغرافية ليست قليلة، إضافة إلى ما تملكه من أذرع مرئيّة وغير مرئيّة عابرة للعالم ورصيداً عالي القيمة في بنك أهدافها. الاشتباك على خلفية حرب أسعار البترول لن يكون سهلاً وستكون خسائره بالغة في الأموال وربما في الأرواح.

نعود ونتذكّر الفيلسوف مالثوس، ما تقدّم من وباء كورونا وحرب أسعار البترول وارتداداتهما الأولى قد أحدثت حالة من الركود والتي سرعان ما ستتحوّل إلى كساد، ويُعرّف علم الاقتصاد الكساد على أنه حالة طويلة الأمد من الركود والضعف والانكماش في الأنشطة الاقتصاديّة بكامل قطاعاتها الإنتاجية والخدمية ويلحق به ارتفاع معدلات البطالة وتضاؤل القدرة الشرائية وانخفاض وتراجع التجارة الداخلية والخارجية وتوقف مجالات الاستثمار وعدم استقرار قيمة العملات وتآكل قيمتها، وهو لا يضرّ بالفقراء فقط وإنما بالأغنياء أيضاً، ففي الكساد الكبير الذي حصل عام 1929 تحوّل عدد كبير من رجال الأعمال وأصحاب المصانع والأثرياء إلى متسوّلين يعيشون في أكواخ بائسة ويقفون في طوابير توزيع الإعانات لتسلّم حصصهم من الخبز، أو يبحثون في حاويات القمامة عما يسدّ رمقهم، بالطبع كان التأثير شاملاً لمجالات الحياة كافة فانخفضت قيمة كلّ شيء بما فيه الإنسان، سرعان ما انتقل هذا الحال من الولايات المتحدة ليعمّ العالم بأسره وازدادت معاناة الشعوب، الأمر الذي أدّى إلى تزويد أعداء الولايات المتحدة والعالم الرأسمالي بحجج عن فساده وازدهرت الدعوات الشيوعيّة والاشتراكيّة وظهرت أفكار ومبادئ ونظريات جديدة أدّت إلى وصول الأحزاب القوميّة المتطرفة إلى الحكم في إيطاليا وألمانيا واسبانيا، نمت برعايتها بذور الحرب العالمية الثانية التي استخدمت بها أجيال جديدة من الأسلحة لم تكن معروفة.

أما عن أوضاعنا في خضمّ هذه الأزمة، فإنْ كانت الأخبار الواردة من الشمال السوريّ تدعو للتفاؤل، فإنّ ما جرى في محاكمة العميل الفاخوري ما يشير إلى أنّ جهات لبنانيّة رسمية لا زالت مرتبطة بخيارات ساقطة، ويبدو أنها اعتقدت أنّ الإفراج عن العميل مسألة ستمرّ مرور الكرام وسط انشغال اللبنانيّين بالوباء وأخباره وإشاعاته وإجراءات السلامة.

أما في فلسطين فكان لأزمة الوباء دورها في تسهيل أمور حكومة الاحتلال لتنفيذ ما تشاء من ضمّ أراضي المستوطنات الكبرى والأغوار وشمال البحر الميت وسط حالة السكون والشلل في جانبنا، فارضة على أرض الواقع حقائق سيكون من الصعوبة بمكان تجاوزها سلماً أو في المنظور، وقد تقدّمت كتلة الليكود بمشروعَيْ قرار للكنيستالأول يقضي بضمّ المناطق المذكورة مُضافة إليها برية الخليل، والثاني بتشريع الإعدام بحق (المخرّبين الفلسطينيين والعرب)، وكان بني غانتس قد أكد في حملته الانتخابية تأييده المطلق لعملية الضمّ، في حين كان ليبرمان أوّل مَن بادر ومنذ سنوات بتشريع حكم الإعدام بحق المقاومين والمناضلين الفلسطينيين، اما رئيس الحكومة بن يامين نتنياهو فتسير الأمور لمصلحته مثل مقامر يقف الحظ الى جانبه، فالمحكمة التي كان يفترض أن تعقد أولى جلساتها الثلاثاء الماضي لمقاضاته في قضايا فساد فضائحيّة قد تمّ تأجيلها بسبب وباء كورونا الى أجل غير مسمّى، وتتردّد أنباء أنّ خصومه قد لا يمانعون في بقائه في رئاسة الحكومة لسنة أخرى بسبب الأوضاع القلقة، وهي فترة كافية لفعل كل ما يريد.

يريد نتنياهو أن يأتي بالفلسطيني الرسمي الى مائدة التفاوض لا من أجل ان يفاوض وإنما من اجل القبول بالإملاءات «الإسرائيلية»، فعليه ان يقبل بيهودية الدولة، وعليه أن يقبل ويوافق على الرواية الصهيونيةالتوراتية لتاريخ فلسطين والحقوق المترتّبة على ذلك، وأن يدرجها في المناهج الدراسية لطلاب المدارس، وعليه أن لا يسقط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى ديارهم فحسب، وإنما ان يتنازل عن حقوقهم بالتعويض أيضاً، وعليه ان يقبل بالتقاسم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى وقبة الصخرة (التي سيكون اسمها في أيّ اتفاق مقبل جبل الهيكل).

معظم ما ورد لم يعُد سراً يُخفى على المتابع والمهتمّ والسياسي، ومع ذلك نرى انّ التطبيع بين بعض الإقليم ودولة الاحتلال ما زال بتسارع في هرولته نزولاً، ثم كيف يمكن لفلسطيني أن ينحو باللائمة على أولئك المطبّعين وهو يمارس التطبيع ويمنح غطاءه للمطبّعين ليضيف الى شعار الحياة مفاوضات شعاراً جديداً ألا وهو «الحياة تطبيع».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*سياسي فلسطيني مقيم في الضفة الغربية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى