أولى

حكومة جديدة أم حكومة بين الحكومات!

 بشارة مرهج*

القطاع المصرفيّ الذي برز يوماً مثالاً للتنظيم الإداري ورمزاً للتطوير التكنولوجي بات اليوم في وضع لا يُحسَد عليه بعد أن فقد مكانته واهتزّت سمعته بسبب الارتباك السائد في قراراته والجور الظاهر في ممارساته.

وهذا القطاع الذي استفاد من أموال المودعين في مراكمة ثرواته وأصبح أصحابه عنواناً للنجاح والتقدّم في المنطقة العربية بات اليوم يسجل الإخفاق تلو الآخر سواء على جبهة الاقتصاد الوطني أو على جبهة الجمهور. فإذا كانت الدولة تؤثر المناورة مع جهة ترفض الانصياع لها أو لطلباتها، فإن الجمهور لم يعد قادراً او راغباً في تحمل المزيد من التجارب بعدما خسر الكثير جراء ثقته بالمصارف التي تهاونت في أمواله وتصرّفت بها بشكل أدّى إلى هدر قسم كبير منها، وتجميد المتبقي ورهنه بمزاجيات وتعاميم لا يلتزم بها أحد. وأبلغ مثال على ذلك ما يجري لدى حفنة من الصيارفة. فهؤلاء يحدّدون سعر صرف الليرة بدلاً من الدولة ومؤسّساتها وفي طليعتها البنك المركزي الذي  يقف عاجزاً تماماً عن تقرير سعر الصرف بعد أن كان بكلمة منه ينصاع له الجميع سواء كانوا صيارفة أو مصرفيين.

وما أصاب المصارف اللبنانية من فوضى وضعف وعجز عن الاستجابة أصاب البنك المركزي الذي تحكمه سلطة منفردة وقد غابت عنه المؤسّسات أو غُيّبت قسراً لغرض في نفس يعقوب. وقد تجلى ذلك في قرارات ملتبسة، اتخذتها هذه السلطة، خدمت الأثرياء والمصرفيين وكبار السياسيين وخذلت مجموع المواطنين.

لقد ساعدت هذه السلطة المنفردة المجموعة الحاكمة على تحويل وتهريب أموالها الى الخارج من دون أن يرفّ لها جفن، وكأنّ مهمّتها الخضوع للنفوذ المالي والسياسي وليس التقيّد بقانون النقد والتسليف وتأدية الأمانة لأصحابها، فيما تشدّدت و«تمرجلت» على المواطنين وحجزت أموالهم وأذلّتهم على أبوابها.

وفي ظلّ الظروف الاستثنائيّة التي تعيش فيها البلاد والعالم ارتضى الناس، على مضض، تلك التدابير الظالمة بحقهم  علّهم يحصلون على جزء من أموالهم يكفل لهم السترة ولقمة العيش، ولكن سرعان ما انهالت مطرقة المصارف على رؤوسهم في ظلّ سكوت الحكومة و«تعاون» البنك المركزي المفترض فيه حماية الاستقرار النقديتلك الأسطورة التي تذرّع بها طيلة المرحلة الماضية لتسريب المال العام ومن ثم المال الخاص الى جيوب الأثرياء عبر فوائد مرتفعة طالما احتجّ عليها الجمهور والخبراء وطالبوا بتخفيضها وكسر نيرها المثبت على عنق الاقتصاد الوطني.

إنّ الفوضى العارمة التي يعيشها البنك المركزي كما المصارف التجارية اليوم، والتي أدّت الى تجريد الناس من قسم كبير من أموالهم وحقوقهم، وجعلت أهلنا وطلابنا في الخارج ينزفون ويتبهدلون، هذه الفوضى لا يمكن أن نعزوها إلى الانتفاضة الشعبية أو فيروس كورونا. فالأزمة سابقة لهما وتصاعدت بسببهما من دون أن تكلف السلطةالشريكة في مسؤولية الانهيار  – نفسها مهمة تعيين الهيئات المنتهية صلاحياتها، وخاصة في البنك المركزي الذي يتحوّل بدونها الى إقطاع شخصي يرفض الاستجابة لأبسط طلبات الحكومة العاجزة بدورها عن استرداد صلاحياتها وأموالها من براثن الطبقة الحاكمة. وعذر أقبح من ذنب انبهار الحكومة بالهالة المصطنعةالتي بناها إعلام مستفيدللحاكم الذي ذهب بعيداً في هندساته وتسليفاته وتوظيفاته التي يعرفها الناس وتتداولها الحكومة من دون أن تتجرّأ على مساءلته عنها، علماً بأنّ واحدة منها تكفي لملء جزء من الصندوق الفارغ.

وبعد كلّ ما جرى فما هي حاجتنا الى حاكم أو مسؤول يرفض الشفافية ويرفض تسليم السلطة العليا في البلاد الأرقام الدقيقة التي طلبتها؟!

ما هي حاجتنا بعد كلّ الذي جرى الى حاكم يرفض مبدأ المساواة ويقدّم تسليفات لهذه الجهة أو لهذا الشخص بمستوى 2 بالمئة ويقدّم في المقابل تسليفات لجهة أخرى او لشخص آخر بمستوى 8 بالمئة؟!

وما هي حاجتنا إلى حاكم لم يقف مرة واحدة بوجه الفوائد المرتفعة مع علمه بالنتائج الكارثية لهذه الفوائد على حركة الاقتصاد؟

لا بل ما هي حاجتنا بعد كلّ الذي جرى إلى حاكم ناجح في المدار الإعلامي وفاشل في الميدان النقدي، تسبّب مع شركائه في السلطة السياسية بأكبر أزمة في تاريخ لبنان الاقتصادي؟

إنّ الحكومة أمام امتحان مصيري لأنها أتت للتغيير والإصلاح والإنقاذ وليس للترقيع والتستير وتبويس اللحى. فإما ان تكون هذه الحكومة هي السلطة العليا في البلاد وتقوم بعملية تغيير شاملة في البنك المركزي، وسواه من المؤسسات، وتعيّن الأكفاء الأنقياء الذين تزخر بهم البلاد، وإما أن تكون حكومة بين الحكومات الكثيرة التي تضجّ منها البلاد.

 

*وزير ونائب سابق.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى