أخيرة

بعد الكورونا ليس كما قبله

 حبيب البستاني*

منذ الحرب العالمية الثانية لم يشهد العالم حرباً مدمّرة قاتلة كتلك التي يشهدها اليوم، ووصلت مفاعيلها إلى كلّ أصقاع الأرض بدون استثناء ولم يبق بلد واحد خالياً من وباء كورونا المستجدّ، فالجميع يتحدث عن عدو شرس فتاك غير منظور يتنقل بسرعة جنونية تجاوزت سرعة انتشار البرص (La Lèpre) في بدايات الألفية الأولى وكذلك الطاعون (La Peste) في القرون الوسطى. وهو يشكل لتاريخه أكبر من وباء من حيث سرعة الانتشار ورقعته وعدد المصابين، وقد عرّفته منظمة الصحة العالمية (OMS) بـ (Pandémie) وليس (Epididémie) أيّ بمعنى الوباء الشامل.

العالم والوباء

لم يكن أحد في العالم يدرك هذا الوباء ومفاعيله مما أدّى إلى تعامل كلّ الدول معه بالقطعة بحسب النتائج والأعراض وعدد المصابين، فراحت كلّ دولة تنظر إلى الصين لا سيما مدينة ووهان (Wuhan) في وسط البلاد والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من 11 مليون نسمة والتي أصيبت في البداية، العالم ينظر إلى الصين ويتعلم منها طريقة التعامل وكيفية الاحتواء والحدّ من الانتشار، ولقد أثبتت الوقائع أنّ معظم دول العالم لم تستطع التعامل مع الوباء لا سيما لناحية الاحتواء والعلاج، فإذا كان العلاج غير متوفر في البداية، ولكن الأدهى أنّ أماكن العلاج والمستشفيات لم تكن كافية ولم تكن التجهيزات فيها متوفرة، ونحن هنا لا نتحدث عن الدول الصغيرة والفقيرة إنما عن الدول الأكثر تقدّماً كإيطاليا وفرنسا وإنجلترا وحتى الولايات المتحدة، التي تعاني مثلها مثل معظم دول العالم من نقص كبير في الأسرّة الخاصة بالعناية الفائقة وأجهزة التنفس الاصطناعي (ventilator) وحتى مراكز الحجر الصحي، وقد ترافق ذلك مع عدم تعاون بين معظم الدول فصرخت إيطاليا بلسان وزير خارجينها مطالبة المجموعة الأوروبية لتتحلى بالوفاء للبلد الذي وصل عدد المصابين فيه إلى 100.000 وعدد الضحايا إلى أكثر من 10.000 ضحية، ولكن هذه الدول لم تستطع الإيفاء بالتزاماتها الأخلاقية وألغت الطلبات المقدّمة من إيطاليا لشراء أجهزة تنفس هي بأمسّ الحاجة إليها بحجة أنّ ما لديها لا يكفي لمصابيها، كما ردّت ألمانيا وبريطانيا وغيرها، ما حدا بالسلطات الإيطالية إلى إنزال علم المجموعة الأوروبية ورفع مكانه علم الصين.

إنّ النقص الهائل في المعدات الطبية وحتى في لوازم الحماية الشخصية المعروفة بإسم (PPE) إنْ دلّ على شيء فهو يدلّ على هشاشة النظام الصحي المعمول به في الغرب لمواجهة الكوارث. من هنا، وبناء عليه، فإنّ قناعة قد تجلت لدى معظم المراقبين أنّ الدول الأكثر تقدّماً من أميركا إلى أوروبا تعاني من عدة مشاكل أهمّها:

ـ عدم قدرة هذه الدول على مواجهة الكوارث.

ـ عدم القدرة على مواجهة الأوبئة لا سيما مواجهة خطر الحرب الجرثومية، وذلك بالرغم من التطمينات والتدريبات العسكرية التي دأبت هذه الدول على ممارستها، مستخدمة أكبر الماكينات الإعلامية لغش المواطنين وطمأنتهم.

ـ عدم القدرة على التوحد والتعاون ومدّ يد المساعدة في ما بينها، إذ إنّ هذه الدول مارست مقولةيا رب نفسيأيّ ما يعرف بالفرنسية (sauve qui peut).

لفد ثبت بما لا يقبل الجدل أنّ الدول الفقيرة أو المتعثرة كإيطاليا مثلاً بالكاد بإمكانها تخصيص 50 مليار يورو لمواجهة كورونا، في وقت وضعت كلّ من فرنسا وألمانيا أكثر من 500 مليار يورو لكلّ منها لمواجهة الوباء ورصدت الولايات المتحدة 2 تريليون دولار.

دول المعسكر الشرقي السابق

لقد برهنت دول منظومة المعسكر الشرقي السابق كالصين وروسيا وكوبا على قدرة تقنية وعلمية عالية على مواجهة الوباء، وبالتالي أثبتت أنّ هذه الدول مجهّزة فعلياً وليس بالكلام لمواجهة خطر نشوب أيّ حرب جرثومية، وقد برهنت هذه الدول على القدرة على مساعدة كلّ الدول بالرجال والعتاد اللازم، وعلى سبيل المثال لا الحصر الطواقم الطبية التي أرسلتها كوبا إلى إيطاليا بالإضافة إلى الأطنان من المعدات التي أرسلتها روسيا، وهنا نشير إلى الجسر الجوي الطبّي المزمع العمل به بين الصين وفرنسا لتأمين 600 مليون كمامة (Masque) بالإضافة إلى لوازم طبية مختلفة.

ماذا سيتغيّر؟

ربما من المبكر استشراق المتغيّرات التي ستطرأ على النظام العالمي الجديد، ولكن من شبه المؤكد أنّ المنظومات السياسية الموحدة كأوروبا مثلاً ودول حلف الناتو (OTAN) ستشهد تغيّرات جذرية، فلا أحد سيسعى بعد الآن للبقاء في منظومات سياسية أو عسكرية غير مجدية.

من المؤكد أنّ النظرة إلى العدو والصديق سترسمها معطيات جديدة تتصل أكثر بالواقع منها بالمبادئ، كالنظرة إلى روسيا كعدو والعقوبات التي ما زالت مفروضة عليها من قبل العديد من الدول الأوروبية التي تنعم اليوم بمساعداتها.

إنّ عالم ما بعد كورونا سيأخذ بعين الاعتبار مسلّمة أنّ أميركا لن تعود كما كانت زعيمة العالم الأوحد، وبالتالي فإنّ الوجه السياسي لأوروبا سيتغيّر وستتجه أكثر فأكثر نحو الوحدة الجغرافية التي تتصل بالواقع بدلاً من الوحدة السياسية المفروضة فرضاً.

فهل يكون وباء كورونا فاتحة لإنشاء يالتا (Yalta) جديدة لتقسيم العالم. كلها أسئلة ما زال من المبكر البحث فيها ولكنها ستأخذ طريقها إلى البحث متى استطاع العالم الخروج من النفق المظلم حيث يقبع أكثر من 3 مليارات مواطن في بيوتهم بانتظار العلاج لا سيما المصل الضروريVaccinللقضاء نهائياً على فيروسCOVID 19”.

*كاتب سياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى